فرنسا بين نضج شيراك وماركتينغ ماكرون/ د. حسين مجدوبي

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

تمرّ فرنسا بأزمة عويصة في علاقاتها مع العالم العربي، بسبب الرسوم المسيئة لنبي الإسلام، حيث جاءت ردود الفعل العنيفة في انتقاداتها من حكومات ورأي عام بشتى ألوانه، بين المحافظ والتقدمي. وتُبرز هذه الأزمة غياب سياسيين ناضجين في هرم الدولة الفرنسية، بعد وصول جيل يسمى بجيل «Power Point» وعلى رأسهم الرئيس إيمانويل ماكرون.
وبقدر ما شجبت غالبية المسلمين العملية الإرهابية التي ذهب ضحيتها المدرس صامويل باتي، بقدر ما انتفضت في وجه الرئيس ماكرون بسبب تشبثه بالرسوم المسيئة للنبي، وتحديه لمشاعر المسلمين. وهذا ثاني خطأ ارتكبه الرئيس في ظرف أقل من شهر، بعد خطابه الذي يتحدث فيه عن «الانعزالية الإسلامية» خطاب لا يُعرف المقصود منه في ظل انشغال العالم بوباء كورونا. ولا تقتصر الانتقادات على المسلمين، بل إن منابر إعلامية غربية مثل «الأوبزرفر» و»نيويورك تايمز» و»واشنطن بوست» التي تعجبت من أخطاء ماكرون، التي ستسبب أزمة تقترب من أزمة الحضارات، في الوقت ذاته، رفضت الدول الغربية الانجرار إلى مواجهة العالم الإسلامي.
وللعثور على أزمة في تاريخ العلاقات الفرنسية مع العالم العربي والإسلامي على غرار الحالية، يتطلب الأمر التنقيب في الأرشيف البعيد نسبيا، القيام بفلاش باك في الزمن، إلى منتصف الخمسينيات، وبداية الستينيات، عندما كان العالم ضد نزعة فرنسا للبقاء في مستعمراتها العربية مثل، شمال افريقيا، خاصة الجزائر.
وحرص كل الرؤساء الذين تناوبوا على الحكم في قصر الإليزيه، منذ شارل ديغول الى جاك شيراك في بداية القرن الواحد والعشرين، على نسج علاقات مستقرة مع العالم العربي، وتفادي الأزمات العامة مع العالم الإسلامي، ولكن هذا لم يمنع من انفجار أزمات ثنائية مع بعض الدول ولم تكن شاملة. وواقعيا، لم تكن العلاقات الفرنسية مثالية مع العالم العربي والإسلامي، ويمكن توجيه الكثير من النقد واللوم الى الرؤساء السابقين، في علاقتهم الغامضة والمريبة أحيانا بالعالم العربي، وأساسا شمال افريقيا، ونسبيا الخليج العربي، لكن غلب النضج في سياستهم، سواء تجاه الجالية المهاجرة المقيمة في فرنسا، أو تجاه الدول. لقد حرص هؤلاء الرؤساء على تفادي الماضي الأليم، وعدم تمجيد الاستعمار بشكل علني، كما فعل ساركوزي، وحاولوا التعامل بروية مع قضايا الهجرة، خاصة الإسلام، وتبنوا مواقف مشرفة نسبيا في نزاعات مثل القضية الفلسطينية، وحرب العراق. ومن باب استحضار مواقف الماضي، يحتفظ يوتيوب بالمداخلة التاريخية لوزير خارجية فرنسا دومنيك دو فيلبان خلال سنة 2003 في مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة لمعارضة الحرب ضد العراق. ويقدم لنا أرشيف إنترنت أو ذاكرة الشبكة العنكبوتية، بيان الرئيس جاك شيراك يوم 8 فبراير 2006 في تعليقه على الرسوم المسيئة للنبي، عندما نشرتها صحيفة دنماركية، وفجّرت أزمة حقيقية بين العالم الإسلامي والغربي، بأطروحته المتمثلة في الدفاع عن حرية تعبير مسؤولة لا تمس ولا تستفز مشاعر الآخرين، ولا تسبب في تأجيج الأوضاع.

وحل محل الجيل الناضج، الذي انتهى مع شيراك جيل جديد يسمىPower Point، وبدأ رسميا مع نيكولا ساركوزي سنة 2007. وهذا الوصف المنقول من عالم الاعلاميات، ويطلق على بعض السياسيين والمثقفين، الذين لا تسعفهم معرفتهم في إلقاء خطاب، ويلجأون إلى المؤثرات الرقمية بهدف الإبهار. ومع هذا الجيل، فقدت السياسة الفرنسية هيبتها ووزنها لصالح السياسية «الخفيفة» على شاكلة «الأكلات الخفيفة» التي تفتقد للطعم والذوق. وهكذا، فشلت فرنسا مع رؤسائها الجدد في إدارة ملفات حساسة مثل، الهجرة ثم الربيع العربي، علاوة على الملف الحالي المتعلق بالإسلام. ومن تبعات تولي هؤلاء الرؤساء، المسؤولية في أعلى هرم الدولة، غلبة الزبونية في التعيينات الاستراتيجية في دواليب الدولة، من خارجية وأمن واستخبارات واقتصاد وثقافة. لقد أضحت الدبلوماسية الفرنسية بدون لون وفاقدة للعمق بسفراء محدودي التجربة، وأصبحت الاستخبارات الفرنسية تدار على شاكلة الأفلام، وترتكب الخطأ تلو الآخر في التقييم، وهو ما يظهر في قرارات الدولة الفرنسية. وبدورها فقدت الثقافة ومؤسساتها مثل العالم العربي طابع الجسر مع الآخر، لصالح البهرجة والزبونية، وأصبحت مشاريع مثل الاتحاد المتوسطي للحوار بين شعوب المتوسط فاقدة البوصلة. وتفجرت الفضائح المرتبطة بعهد ساركوزي من فساد وعمولات، ولعل المفارقة الكبرى هو تمويل نظام ديكتاتوري مثل نظام القذافي للحملة الانتخابية، التي أوصلت هذا السياسي لرئاسة فرنسا، والآن سيحاكم بسبب هذا الملف. وإذا كان فرانسوا أولاند قد مرّ بدون مجد يذكر، ولكنه حافظ على الحد الأدنى من النضج، فقد جعل خلفه إيمانويل ماكرون من فرنسا ما يشبه الشركة المتعددة الجنسيات، وتسبب في نزاعات مثلما يحدث مع تركيا وفي ملف الرسوم المسيئة للنبي، وكل هذا بسبب افتقاره للرؤية العميقة للعلاقات الدينية والثقافية وتفضيله الماركتينغ السياسي.
أزمة الرسوم الشائكة أعادت ماكرون وفريقه في الحكم الى خانة النضج السياسي، وهو ما ظهر جليا في الحوار الذي أجراه مع قناة «الجزيرة» لمخاطبة الرأي العام الإسلامي، بأسلوب مختلف عن طابع التعنت والتحدي السابق. وبدون شك، ستدرك فرنسا ضرورة التخلي عن النبرة الاستعلائية التي حلت محل النبرة الاستعمارية في رؤية ومخاطبة الآخر.

Sign In

Reset Your Password