عــــــودة الأنــدلـــــس/د.حسين مجدوبي

قصر الحمراء

يتوافد المهاجرون” هو التعبير المتداول سياسيا وأكاديميا في الدول الغربية لوصف عملية وصول المهاجرين إلى أراضيها بحثا عن فردوس الحياة ومنصب العمل. ويختلف الأمر عندما يتعلق باسبانيا وأساسا في منطقة الأندلس، فيهمين تعبير “عودة المسلمين” أو تعابير مثل “عودة المورو” أو “عودة الموريسكيين”  لوصف عودة أناس كانت لهم جذور في هذه الأراضي الأوروبية. ويمتد الحديث الى عودة مظاهر الحضارة الأندلسية لهذا الإقليم المطل على المغرب بحرا. وهذه العودة تلاقي في آن واحد ترحيبا ورفضا، سياسيا وثقافيا.

 وكان المفكر الروائي الشهير خوان غويتيسولو من الأوائل الذين اختاروا تعبير “عودة الموريسكيين” ليدشن النقاش السياسي والثقافي حول الهجرة القادمة من الضفة الجنوبية للمتوسط، وهو النقاش الذي يخوض فيما إذا كان الامر يتعلق بهجرة كلاسيكية أم بعودة أحفاد طُرِد اجدادهم  من قبل التطرف الديني  ما بين القرنين الرابع عشر وحتى السابع عشر.

وهي الفكرة نفسها التي عملت عليها شركة “بركة للإنتاج السمعي البصري” لإنجاز شريط وثائقي سنة 1999 بعنوان “المورسكيون الجدد” لتعميق هذه الأطروحة. ويؤكد فرانسيسكو غوتيريث، منتج الفيلم لألف بوست “كنا من الأوائل الذين عالجوا الموضوع، واقتنعنا أن الأمر يتعلق في حالة المغاربة بعودة أناس كان أسلافهم يقيمون في هذه الأراضي”.

وتدريجيا، بدأت عودة المغاربة التي ينظر إليها على انها “عودة الموريسكيين” تساهم في نقاش سياسي واجتماعي وثقافي يسجل حضوره في أشكال ومظاهر متعددة ومختلفة في الحياة الإسبانية.

ثمار العودة: الانفتاح الثقافي

ولعل أولى ثمار هذه العودة وما يترتب عنها من نقاش، ظهور  جيل من الإسبان وخاصة الأندلسيين لا يحملون رؤية إيزابيلا الكاثوليكية للإسلام والمسلمين بل رؤية الانفتاح والتفتح، يؤمنون بالحضارة الأندلسية مكونا من مكونات هوية اسبانيا الراهنة. وفي هذا السياق، تبقى حكومة الحكم الذاتي في جنوب اسبانيا التي ورثت اسم “الأندلس” بعدما كان في الماضي يطلق على مجوع شبه الجزيرة الإيبيرية، الأكثر جرأة عندما قامت منذ سنوات بتعديل قوانين الحكم الذاتي وأدمجت المكون الأندلسي مرجعا لهوية هذا الإقليم. قرار يعتبره المؤرخون بالصائب طالما أن الأندلس تكتسب هويتها الحالية والتاريخية بمعالم  الذي يضم معالم حضارة الأندلس مثل قصر الحمراء في غرناطة ولاخيرالدا في اشبيلية و”جامع قرطبة” بمدينة قرطبة  إضافة إلى عشرات المآثر الخالدة الأخرى.

واستندت حكومة الأندلس في جعل الحضارة الأندلسية مرجعا على المفكر والسياسي بلاس إينفانتي “أب الوطني الأندلسي”، وهو سياسي  عاش في أواخر القرن التاسع عشر وتعرض للإغتيال مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1936، وكان قد رفع شعار “وحدة شمال المغرب وجنوب اسبانيا” لتأسيس ما يشبه الفيدرالية الأندلسية.

لكن هذا الخيار السياسي لم يلاقي ترحيبا من المحافظين الذين يعتقدون في مضيق جبل طارق “جدارا فاصلا بين العالم الإسلامي والغرب” ويجعلون من اسبانيا “حارسة الحدود الغربية المسيحية” بل ويؤكدون أن “الغرب” بمفهومه الحالي ظهر مع “سقوط غرناطة، وهناك كتب متعددة تؤكد هذا الطرح منها “اسبانيا في مواجهة الإسلام للمؤلف الصحفي سيزار فيدال.

جامع قرطبة الشهير
جامع قرطبة الشهير

ولعل المبادرة الجريئة في  محاولة إحياء ثقافة الأندلس هي تلك المتعلقة بمحاولة مجموعة من الإسبان المسلمين وبدعم من جمعيات مغربية استعادة حق الصلاة في جامع قرطبة الشهير. خطوة تعود لسنوات واعتبرها الفاتيكان منعطفا لصراع ديني ودق ناقوس الخطر محذّرا مما يصفه ” بالشبح الإسلامي في أوروبا”. وفي صمت بادرت الكنيسة الى تسجيل ملكية الجامع في اسمها مقابل ثمن رمزي  لا يتعدى 30 يورو في محاولة لقطع الطريق عن محاولات اقتسام المسجد بين المسيحية والإسلام.

ولا ينظر الإسبان الى الجامع الشهير من رؤية دينية محضة مثل المسلمين والمسيحيين بل من زاوية ثقافية وحضارية وإنسانية  وتاريخية. وإذا كان مطلب صلاة المسلمين في قرطبة يلقي معارضة قوية وأنعش اليمين الديني المحافظ  الذي يلوح بورقة التخويف من “الآخر “القادم من الضفة الأخرى لمضيق جبل طارق، فقد انكمش هذا السلاح عندما هبت لجنة وطنية مكونة من سياسيين ومثقفين علمانيين تطالب  الدولة الإسبانية باستعادة أصول ملكية مسجد جامع قرطبة ليكون فضاءا للحوار ورمزا للحضارات التي تعاقبت على اسبانيا تاريخيا. وهذا المسعى صعب وليس بالسهل أمام قوة الكنيسة في اسبانيا التي تعتبر من الدول الأكثر تدينا وميل الحكومة المحافظة بزعامة مايرانو راخموي لها.

ويقول خوسي أنتونيو ألكنتود من جامعة غرناطة الباحث في الأندلس أن مظاهر الاهتمام باستعادة الأندلس ومنها محاولة تحويل “الأندلس الى مرجعية للحوار بين الديانات والثقافات ليس في المتوسط بل في العالم” يعكس الوعي بروح الأندلس.

وهذا التصور يدفع عددا من المثقفين والمؤرخين الى المطالبة بنهاية كل أشكال التمييز الديني ومظاهر العنف التاريخي ومنها الاحتفال بسقوط غرناطة. وتحتفل مدينة قصر الحمراء كل يوم 2 يناير بسقوط “السلطة الاسلامية” وبداية توحيد اسبانيا المسيحية، وهو احتفال يقوم على تصور ديني يتنافى والقرن والواحد والعشرين، مما دفع أسماء كبيرة مثل مدير منظمة اليونيسكو السابق فدريكو ساراغوسا الى المطالبة بإلغاء هذا الاحتفال.

مطلب المساواة بين الموريسكيين والسافرديم

ويمتد الجدل الى رغبة أحفاد الموريسكيين في المغرب استعادة الجنسية الإسبانية، رغبة تعود الى بداية التسعينات. وغذّت مدريد هذا الجدل خلال فبراير الماضي عندما أعنلت منح اليهود السافرديم (المنحدرين من الأندلس) حق استعادة الجنسية الإسبانية. قرار الحكومة جعل الموريسكيين المسلمين يصرخون “لماذا اليهود وليس المسلمين؟”. صرخة تعكس الظلم التاريخي لكن تحقيقها رهين بمصالح مدريد.

السياسي والمفكر بلاس إنفانتي الذي طالب بوطن موحد بين الأندس والمغرب
السياسي والمفكر بلاس إنفانتي الذي طالب بوطن موحد بين الأندس والمغرب

وتختلف مظاهر عودة الأندلس بين من يريد الجنسية وتقديم اسبانيا اعتذار  للموريسكيين على طردهم كما اعتذر ملك اسبانيا خوان كارلوس لليهود السافرديم، ولكن الصرخة الحقيقية لاستعادة الأندلس رمزيا هي التي وقعها المخرج التونسي ناصر الخمير في فيلمه الشهير “الهائمون” سنة 1984 أن ما ينتظره العرب للخروج من تيههم هو استعادة فكر العقل والمنطق الذي ساد في أندلس ابن رشد.

لكن عودة الأندلس ليس كلها مطالب ومقترحات بل حتى تعاليق سخرية. وفي هذا السياق يعلق بنوع من السخرية بابلو. غ، وهو مصور  كاميرا عمل في قنوات تلفزيونية محلية ويعاني من البطالة “عاد الموريسكيون، وعادت معهم أشكال الثقافة الموريسكيية، ولكن لم يصل الرأسمال العربي والخليجي الى اسبانيا، فهل أموال العرب لا تشعر نفسها موريسكية رغم تغني الجميع بحضارة الأندلس”.

والإسبان محقون في تعبير “عودة الموريسكيين”، فهم يعترفون بأن الحضارة الأندلسية وقعها أناس طردوا نحو الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق، وعندما يصل أحفادهم، وهذه المرة على قوارب الموت هربا من الفقر وليس قوارب طارق بن زياد بحثا عن المجد التاريخي، فهم يعودون ومعهم يتم إحباء تقاليد ومفاهيم أو استعادتها. وعندما يقف القادم من الضفة الجنوبية، ويجلس في مرتفع سان نيكولاس في حي البيازين يتأمل قصر الحمراء، أو يقف مشدوها أمام جامع قرطبة، وينبهر بسور قصبة مالقا ينتابه شعور مختلف عن رؤيته لبرج أيفيل في باريس، رغم وقوع كل من البرج والقصر والجامع والسور في الفضاء الذي يسمى سياسيا “الغرب”.

إنها عودة الأندلس عبر أشكال الحوار والتلاقح الثقافي والديني وليس عبر حروب الفتح والاسترداد، ولكن ليس بمعزل عن الجدل الثقافي والسياسي .

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password