خوان كارلوس كان ملكا فاسدا ولم يكن ديمقراطيا

الدكتاتور الجنرال فرانكو رفقة خوان كارلوس عندما كان وليا للعهد

يقول الروائي ألبير كامو، توجد حقيقتان واحدة معروفة وأخرى يفضل أن تبقى غير معروفة. وهذا ينطبق على الكثير من الأحداث والشخصيات السياسية، لكن الزمن ينتهي بإزالة القناع، وإعادة كتابة التاريخ. ولعل من الحالات التي نعيشها حاليا حالة الملك الأب خوان كارلوس، الذي تمتع بصورة إيجابية طيلة عقود من الزمن، لكن المسرحية انتهت.
تقول الصحافية بيلار أياري «بعد الانتقال الديمقراطي، وبعد الانقلاب الفاشل سنة 1981، اتفق مديرو كبريات الصحف على تجنب الحديث عن فضائح الملك». وبدوره يقول الصحافي المخضرم خوسي غارسيا عباد، الذي يعد من أوائل الصحافيين الذين كتبوا في أواسط التسعينيات عن فساد الملك خوان كارلوس «لو كانت الصحافة قد قامت بواجبها لما سقط خوان كارلوس هذه السقطة».
وهذا ما حصل بالضبط، لقد رسم سياسيون ومؤرخون ووسائل إعلام مثل «الباييس» و»آ بي سي» صورة محددة المعالم للملك خوان كارلوس، الملك الديمقراطي الذي ساعد على إرساء الديمقراطية في البلاد، وعمل على إنجاح المسلسل الديمقراطي بعد رحيل الجنرال فرانسيسكو فرانكو، والملك الذي يعيش في تقشف بسبب ميزانية القصر التي لا تتعدى تسعة ملايين يورو سنويا. وسعى هذا الفريق لحماية الملكية، من روايات أخرى حول الواقع الحقيقي للملك خوان كارلوس، حيث كانت الروايات التي تتحدث عن فساده، وعن ممارساته غير الديمقراطية، لا تجد فضاء في وسائل الإعلام الكبرى مثل، قنوات التلفزيون وجرائد من حجم «الباييس». ومنذ التسعينيات، تعرض الصحافيون والمؤرخون، الذين عالجوا حقيقية خوان كارلوس، إلى التهميش والاتهامات بالشعبوية، أو الانتماء إلى اليسار الراديكالي، أو الأحزاب القومية المطالبة باستقلال بلد الباسك وكتالونيا. ونشرت جريدة «الباييس» يوم 20 يونيو/حزيران الماضي مقالا تحاول الدفاع عن نفسها من الاتهامات التي طالبتها بالمشاركة في إرساء «حزام صحي» و»تبييض» الملك خوان كارلوس طيلة سنوات عديدة. ويعود صمت الصحافة إلى اعتقادها بمركزية المؤسسة الملكية، للحفاظ على وحدة إسبانيا في مواجهة مطالب الحركات القومية الراغبة في الاستقلال في بلد الباسك وكتالونيا، ثم دورها في بناء الديمقراطية، وهذه الأشياء تبقى نسبية، خاصة ما يسمى بالدور الديمقراطي.

الجنرال أرمادا، الكولونيل تخيرو، رئيس الحكومة سواريث والملك خوان كارلوس

في هذا الصدد، سقطت الصورة الزائفة لخوان كارلوس كملك متقشف، إذ يتابع الرأي العام الإسباني والدولي هروبه إلى الإمارات العربية، بعدما بدأ التحقيق القضائي السويسري والإسباني يقترب من تورطه في الرشاوي السعودية التي تلقاها من الرياض، مقابل القطارات السريعة التي فازت بها شركات إسبانية. ومنذ سنوات عالجت «نيويورك تايمز» الثروة الضخمة للملك خوان كارلوس بأكثر من ملياري يورو.
سياسيا، يجري تقديم الملك خوان كارلوس كمدافع عن الديمقراطية، ويصفقون لدوره في إفشال الانقلاب العسكري يوم 23 فبراير/شباط 1981. وكما تم رفع القناع عن صورة الملك الفاسد، هناك دراسات وأبحاث وكتب تقلل من دوره الديمقراطي. في هذا الصدد، عين الديكتاتور الجنرال فرانسيسكو فرانكو خوان كارلوس ملكا، وصادق عليه برلمان غير ديمقراطي سنة 1975، برلمان لم يكن نتاج انتخابات ديمقراطية. في الوقت ذاته، كان الأمير خوان دي بوربون، أب خوان كارلوس، هو الأحق بالعرش، ولم يتنازل حتى سنة 1977 عن حقه في منصب الملك، أي شهدت إسبانيا كما يقول عدد من المؤرخين ما بين 1975 و1977 ملكين، الأول هو الأب خوان دي بوربون، صاحب الشرعية التاريخية، والثاني هو خوان كارلوس المعين من طرف الجنرال فرانكو. وكانت معظم الأحزاب السياسية قد طالبت بعد رحيل فرانكو، باستفتاء حول الملكية، أو الجمهورية، وهو مطلب مازال قائما لدى بعضها. ومقابل قبول الأحزاب، جرى تجريد الملكية من معظم الصلاحيات.
يوم 23 فبراير 1981، شهدت إسبانيا محاولة انقلاب فاشلة، أشرف عليها بعض القادة العسكريين، وظهر الملك خوان كارلوس في التلفزيون يؤيد المسار الديمقراطي، في تلك الليلة، اكتسب خوان كارلوس الشرعية الديمقراطية، تغنى العالم بدوره، لكن لاحقا بدأ يظهر عدد من الحقائق، التي تعتبره زعيم الانقلابيين. في البدء، لم يكن الانقلاب يهدف إلى إقامة نظام عسكري، بل الاستمرار في دعم النظام الملكي، وإنشاء حكومة وطنية يرأسها جنرال، ومكونة من مختلف الأحزاب. في هذا الصدد، تبرز الصحافية المخضرمة بيلار أوربانو، التي ألفت كتبا عديدة حول الملكية، وأجرت جلسات مطولة مع الملك خوان كارلوس، والملكة صوفيا، أن الملك هو زعيم الانقلابيين. في كتابها «غياب الذاكرة: ما نسيه سواريث ولا يرغب الملك تذكره» (أدولفو سواريث هو رئيس الحكومة ما بين سنتي 1976-1981، الذي وضع أسس الانتقال الديمقراطي في البلاد من قانون الأحزاب والدستور والحكم الذاتي، وإضفاء الشرعية على الحزب الشيوعي)، تنقل بيلار أوربانو، عن سواريث الذي توفي منذ سنوات، أن الملك خوان كارلوس هو الذي خطط للانقلاب العسكري حتى يترأس الجنرال أرمادا حكومة وطنية، ووصل الى تهديد رئيس الحكومة أدولفو سواريث إذا لم يقدم استقالته.
ومن جانبه، يكشف المؤرخ العسكري الكولونيل أماديو مارتينيث إنغليز، في كتاب له، اجتماع الملك خوان كارلوس مع الجنرالات الذين قادوا الانقلاب، لاسيما الجنرال أرمادا الذي اجتمع معه سبع مرات في ظرف ثلاثة أسابيع قبل الانقلاب. ويؤكد هذا الكولونيل وجود وثائق سرية لدى المخابرات، ترفض الكشف عنها، يعترف فيها القادة الانقلابيون بأنهم نسقوا مع الملك. وترفض الحكومات المتعاقبة على الحكم الكشف عن مضمون التقارير السرية المتعلقة بالانقلاب. ويبقى المثير هو اعتراف الكولونيل تخيرو الذي قام باقتحام البرلمان، وأخذ النواب والحكومة رهائن بقوله «كنت أنفذ أوامر تأتي من القصر الملكي». لقد سادت في إسبانيا ثقافة الصمت حول عدد من القضايا الشائكة والدور الخفي لعدد من السياسيين ومن ضمنهم زعيم الاشتراكيين فيلبي غونثالث، الذي كان مستعدا للمشاركة في حكومة الوحدة الوطنية بعد الانقلاب، وتبين لاحقا أنه هو من أعطى الأوامر باغتيال عدد من أعضاء منظمة إيتا، وفق تقارير الاستخبارات الأمريكية.
تبرز التجارب أن جيلا يثق ثقة عمياء في معطيات محددة، معتقدا في امتلاك الحقيقة، ويدافع عنها بقداسة مطلقة، بدون حس نقدي في حده الأدنى. ويمر الزمن، وتنهار أغلب «الحقائق» لتظهر تلك الحقيقة التي سعى آخرون إلى إخفائها، وظهورها يكون بدون تأثير كبير، ليس فقط لتصحيح الرواية التاريخية المزيفة. ولو قام الصحافيون والمؤرخون بالاطلاع على وثائق الاستخبارات والدبلوماسية، التي يتم الكشف عنها بعد مرور حقبة زمنية، لتمت إعادة كتابة الكثير من الحقائق التاريخية. ولنتساءل جميعا: لماذا يتم رفض الكشف عن الوثائق السرية، لأنها تتضمن الوقائع الحقيقية التي يجب على الرأي العام، عدم الاطلاع عليها في لحظة معينة، بل يجب انتظار مرور فترة زمينة أحيانا تكون طويلة.

Sign In

Reset Your Password