تصفية الإرث الديكتاتوري بأمريكا اللاتينية لتأمين طريق الديمقراطية/محمد المودن

الجنرال بينوتشي احد أبرز اوجه الحقبة العسكرية الدكتايتورية في أمركيا اللاتينية

“إن تذكر الأحداث الأليمة يكون محركا للعدالة، وكلما كان هناك تذكر شامل لتلك الأحداث كان هناك ضغط أكبر على السلطة من أجل الاعتبار”.

فيليكس هيرناديث غاموندي ناج من مجزرة تلاتيلولكو بالمكسيك في اكتوبر 1968

بموازة مع تشكل مسار الديمقراطية الحديثة في بلدان دول أمريكا اللاتينية، كان ثمة مسار مواز  يشد من عضد هذه الديمقراطية الناشئة ويأخذ بيدها في منعرجات التشكل والترسخ، ويعبد طريقها نحو الاستقرار والثبات، إذ تكلف هذا المسار الموازي بتصفية الاستبداد ماديا ومعنويا من أركان الحياة بمختلف هذه الدول. فقد ترسخت قناعة لدى الأمريكيين اللاتينين بأن أساس الديمقراطية لن تقوم قائمته إلا بالقطع الكلي مع كل ما ترسب عن الحقبة العسكرية الدكتاتورية من راوسب الاستبداد التي عانى منها مواطنوهم.

وانبنى مسار تصفية الاستبداد على ثلاث معالم أساسية في تجربة هذه القارة : إنصاف الضحايا ومحاسبة المسؤولين على الجرائم ضد الإنسانية، ثم تعديل القوانين وإسقاط التشريعات التي كانت تحمي المتورطين، فالاعتراف والإقرار بالمسؤولية ثم الاعتذار الموثق من قبل هيئات الدولة مثل القضاء على سبيل المثال عن تخلفه خلال حقب الاستبداد عن حماية الناس من جرائم تلك الحقبة وخروقاتها الفظيعة.

وكانت البراغواي أولى بلدان أمريكا اللاتينية التي استقرت فيها السلطة العسكرية  المستبدة في العام 1954، واعقبتها البرازيل في العام 1964، ثم بعدها بقليل الاوروغواي في العام 1968، وتلتها التشيلي في 1972.  وفي  بلدان أخرى لاتينية مثل الأرجنتين، فقد أمسك العسكريون فيها بالحكم في العام 1976، وهيمنوا على السلطة في دول مثل بوليفيا ودول اخرى لاتينية في العام 1976. وافرزت هذه النظم الديكتاتورية خروقات فظيعة لحقوق الإنسان، و وقائع قاسية من التعذيب والاختفاء القسري، وأصبحت هذه الجرائم معلومة بأسماء جنرالات من أبرزهم اوغيستو بينوتشي بالتشيلي، ورفائيل فيديلا بالارجنتين وألفريدو ستروسنر بالبرازيل. وتطلب الأمر محاسبة هذه الحقبة ورجالاتها وإنصاف ضحاياها للعبور الآمن إلى مرحلة الديمقراطية.

إنصاف الضحايا ومحاسبة المسؤولين لتعبيد طريق الديمقراطية

  وارتبط ترسيخ الديمقراطية بدول أمريكا اللاتينية والخروج من أتون الاستبداد فيها، بإجراء يرمم جراح المجتمع المحلي الذي حفرها الاستبداد في جسمه، فأعده للانتقال السريع نحو الديمقراطية. وبادرت نظمه السياسية الجديدة وقواه المدنية الحية من جهة، إلى  السعي في إنصاف حقيقي لضحايا حقبة العسكر، وعمدوا من جهة ثانية  إلى محاسبة المسؤولين على جرائم المرحلة والخروقات الإنسانية لجنرالاتها ضد المعارضين والممتدة معظمها منذ بداية الستينات إلى نهاية الثمانيات تقريبا.

وقد انبثق مع عودة المدنييين إلى قيادة السلطة في بلدان أمريكا اللاتينية، نقاش واسع امتد على رقعة هذه القارة العريضة، انشغل بكيفية إعادة بناء مجتمعات أنهكها القهر السياسي والاستبداد وخروقاته الإنسانية الفظيعة، وكيف إعادة السلام إليه، و تحقيق مصالحة حقيقية، و بلوغ عدل وإنصاف كاملين.

لقد بادر أهالي ضحايا الحقبة العسكرية مدعومين من فعاليات مدنية وحقوقية وقطاعات مختلفة من المجتمع الأمريكي اللاتيني، إلى المطالبة بالمعرفة الكاملة للحقيقة وتطبيق العدالة، باعتبارها خطوات وشروط تسبق أي مصالحة حقيقية. و تعززت هذه المطالب بقانون وضعته اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في العام 1985، يشير إلى ان ” كل مجتمع له الحق غير القابل للتنازل عنه لمعرفة الحقيقة كاملة لما حصل، وللظروف التي جرى بها تبرير الجرائم ضد الإنسانية، بغرض تجاوزها وعدم تكرارها في المستقبل”.

ومع ترسخ هذه القناعة وانتشارها بشكل واسع بين قطاعات المجتمع المحلي بدأت الحكومات الديمقراطية ما بعد العسكرية مضطرة للاستجابة لمطالب الرأي العام، فبادرت إلى الإفراج عن قوانين جديدة تبيح معرفة الحقيقة والاستماع إلى الضحايا، والبحث عن المختفين  ومن ثمة محاكمة المتورطين العسكريين.

وقد بات من مظاهر إنصاف الضحايا معنويا وإنسانيا قبل التعويض المادي  في الارجنتين مثلا: أن تمكنت “جداتساحة مايو” من التعرف على 105 طفل ولدوا من أمهات كن محتجزات لدى أجهزة الدولة العسكرية الاستبدادية، جرى سرقتهم من امهاتهم ساعة ولاداتهم ومنحوا لأسر نافذة موالية للنظام العسكر ي الحاكم.

وباشرت لجان الإنصاف عملها إذ صادقت البرازيل بإجماع كل القوى السياسية والمدنية في العام 2011 على مشروع قانون للتحقيق في الخروقات الفظيعة ضد حقوق الإنسان التي ارتُكبت في الحقبة العسكرية، ودُعيت رئيسة البرازيل نفسها إلى سرد تجربتها في الاعتقال والسجن  والإساءة التي تعرضت لها في حقبة العسكريين في بلادها.

 واعترفت التشيلي في العام 2011 بحقوق اكثر من 40 الف ضحية من ضحايا ديكتاتورية الجنرال بينوتشي، يتعين إنصافها. وسمحت البرازيل  بأمر من الرئيسة ديلما روسيف بالكشف عن مليون وثيقة سرية عن الحقبة الديكتاتورية في هذا البلد، ووضعتها في متناول الراي العام على الانترنت، فاصبح 18 نونبر 2011 موعدا تاريخيا بهذا البلد جرى فيه إحياء الشفافية والحقيقة.

ومع تعرية جرائم الاستبداد العسكري، والاستماع إلى الضحايا وكشف الحقائق، انتقل المجتمع الأمريكي اللاتيني إلى محاسبة المتورطين ومحاكمتهم. وبدات الارجنتين في العام 2007 جلسات المحاكمة للعسكريين المتورطين في الخروقات الإنسانية مثل هيكتور غامن وهو غو باسكاريلي، وادينوا  بسبب جرائمهم. وسجنت بوينوس أيريس دكتاتور بلادها الأكبر في الحقبة العسكرية خورخي رفائيل باديلا وهو من حكم البلاد من العام 1976 و 1981 .

 ولاحق التشيليون ديكتاتور بلادهم اوغيستو بينوشي، واستثمروا في الامكانات القانونية الدولية، لتفعيل ملاحقته، منذ إقامته ببريطانيا ثم بإسبانيا حيث امر باعتقاله القاضي الإسباني الشهير غارسون بالتسار، والتحقيق معه في الجرائم المنسوبة إليه، ثم جُلب إلى بلاده  لكن توفي قبل أن يصدر حكم نهائي  ضده.

 وفي البيرو أدان القضاء المحلي الرئيس الأسبق ألبرتو فوجي موري بالسجن 25 سنة سجنا لخرقه حقوق الإنسان. وأدان القضاء في غواتيمالا الرئيس السابق للبلاد الجنرال إيفراين رايوس مونت بالسجن 80 عاما، عقابا  له على جرائم الحرب والإبادة التي ارتكبها في الحقبة العسكرية ببلاده حينما كان يدير دفة الحكم.

غير أن الحادث الأبرز في هذا الشأن الذي برز في امريكا اللاتينية، يبقى ذلك الذي قررت فيه الارجنتين، وبوليفيا والبرازيل والتشيلي والبراغوي والبيرو والأوروغواي تنظيم محاكمة جماعية  لدكتاتورييهم في الحقبة العسكرية، في إجراء رمزي ردا على مخطط “كوندور”، وهو المخطط الذي عمد من خلاله جنرالات تلك الحقبة في تلك البلدان إضافة إلى فنزويلا والإكوادور  إلى التنسيق فيما بينهم لملاحقة المعارضين السياسيين، خلال الفترة ما بين 1970 و1980.

القوانين و التشريعات التي تحمي المتورطين من الملاحقة القانونية لا مكان لها

لقد سعت النظم العسكرية التي حكمت بلدان أمريكا اللاتينية ما بين الستينيات حتى الثمانينيات من القرن الماضي قبل مغادرتهم للسلطة، في محاولة تحصين رجالاتها من الملاحقة القضائية والقانونية ضد الخروقات التي ارتكبوها أثناء ممارستهم للسلطة، ووضعوا قوانين مثل “قانون الخضوع الواجب” الذي جرت المصادقة عليه في 4 يوينو 1978 بالأرجنتين، إبان حكم راوول ألفونسين الذي أنشا هذا القانون، تُعتبر فيها الجرائم التي ارتكبها العسكر خلال الحقبة الدكتاتورية غير قابلة للجزاء والعقاب، بموجب القانون المذكور. أو مثل قانون” نهاية الصلاحية”، وُضع هذا القانون بالاورغواي في 1986 لحماية الموظفين العسكريين المتورطين في جرائم حتى حدود 1985 من الإفلات من العقاب، واقترحته الحكومة الأولى لخوليو ماريا سانغيتي. ووضع الكولومبيون قانون “العفو” لنفس الغاية والغرض كما في القوانين الاخرى المذكورة.

ومع تعالي الأصوات المنادية بمحاكمة المتورطين العسكريين في جرائم ضد الإنسانية في القارة اللاتينية الجنويبة، كان عادة ما يحتمي المطلوبون للعدالة بهذه القوانين للدفاع عن انفسهم والاعتراض على مطالب مثولهم أمام القضاء.

غير أن إصرار الضحايا وفعاليات مدنية وسياسية على محاكمة المتورطين في جرائم الحقبة العسكرية ، وظهور قانون وضعته اللجنة الدولية لحقوق الإنسان يعترف بحق  المجتمع والضحايا  في معرفة الحقيقة ومحاكمة المتورطين في جرائم ضد الإنسانية، جعل تلك القوانين التي وضعهتها السلطات العسكرية لحماية نفسها من الملاحقة تهوي، وتنكشف معه عدم صمودها امام حق المحاسبة العادلة لمتورطين في جرائم فظيعة ضد الإنسانية. ودفع ذلك الامر بالدول المعنيىة بإصدار قوانين تكشف عن الحقائق، و تسهل الوصول إلى المعلومات بخصوص الحقبة العسكرية لكشف الحقيقة، وإنصاف الضحايا وتحقيق العدالة.

وقد إيدت الهيئات الحقوقية الدولية وفي مقدمتها منظمة العفو الدولية قرار إسقاط القوانين التي يفر إليها المتورطون في جرائم ضد الإنسانية للإفلات من العقاب، وأشادت بجهود الحكومات الديمقراطية في البرازيل والارجنتين والتشيلي ودول أخرى بالقارة في إقبار تلك القوانين، وفي الدفع في تحقيق مصالحة وإنصاف حقيقيين من خلال تصفية كل القوانين المتوارثة عن حقبة الاستبداد، والتي تحمي المتورطين من العقاب، وتعمل على تحقيق عدالة كاملة تضمن انتقالا آمنا إلى الديمقراطية.

القضاء في التشيلي يعتذر للضحايا

وتقدم التشيلي التي كان الجنرال أوغيستو بينوتشي الحاكم العسكري في الحقبة الدكتاتورية في هذا البلد،  أبرز جنرالات الاستبداد والخروقات الفظيعة ضد حقوق الإنسان في القارة الأمريكية اللاتينية إبان الحقبة العسكرية، نموذجا آخر على سلوكات مؤسساتية لتصفية الاستبداد والقطع مع رواسبه. فقد بادر قضاء هذا البلد الذي خلف فيه الحكم العسكري ما بين 1973 و 1990 حوالي 3000 قتيلا وأزيد من 1000 مختف إضافة إلى الافراد الذين تعرضوا لأنواع مختلفة من التعذيب والسجن والإساءة، تقديم اعتذار واضح عن تقصير الجهاز القضائي في بلادهم عن القيام بواجب الإنصاف وحماية حقوق الإنسان في فترة الجنرال بينتوتشي.وجاء في بيان حاسم للقضاة التشيليين :”  دون غموض أو لبس، ندرك انه حانت ساعة الاعتذار إلى الضحايا ولأهاليهم  وللمجتمع التشيليني، عن عجز القضاة انذاك في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة عن توجيه وتحدي وتحفيز مؤسستنا القضائية وأعضائها من أجل عدم  التخلي عن الواجبات الأساسية  وغير قابلة للتبرير”. بل ومضى بيان القضاة ممعنا في اعتذاره قائلا:” إن السلبية الممنهحة- التي وسمت قرارات القضاة- في التحقيق  في الأعمال الإجرامية التي نفذها رجال الدولة” في الحقبة الديكتاتورية تلك- ” والتخلي عن  معاينة مراكز الاعتقال والتعذيب، ساهمت من دون شك في الحصيلة المؤلمة في مجال حقوق الإنسان التي خلفتها تلك الحقبة السوداء”.

وتسعف عموما تصفية الاستبداد معنويا وماديا في تجربة هذه القارة الحيوية من خلال اجراءات كالتي عُرضت أعلاه إلى إنصاف ضحايا مرحلة الاستبداد التي شابها قمع واغتيال وتعذيب واختفاء قسري للنشطاء السياسيين المطالبين بالحرية والديمقراطية، أوقعتها بهم نظم عسكرية مستبدة، ويؤهلها لانتقال آمن ومعافى نحو الاستقرار الديمقراطي.

وتشيد هيئات مدنية وحقوقية وسياسية دولية بتجربة امريكا اللاتنية هاته لتصفية الاستبداد لانها بنظرهم سوف تعزز من مسارات التحول التي تعيشها بلدان أمريكا الجنوبية ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل على المستوى الحقوقي والديمقراطي. هذه المستويات يعتبرها مواطنوها وسياسيوها لن تترسخ إلا بإنصاف ضحايا القمع والتعسف ثم القطع ثقافيا وسياسيا مع تقاليد الاستبداد والقمع

 

Sign In

Reset Your Password