تبولوا على القانون والأخلاق/ سليمان الريسوني

سواد

يوما بعد يوم وقضية بعد أخرى، يتأكد أن النيابة العامة، في نسختها الجديدة، ليست خصما شريفا، كما تدّعي، لأنها، في قضايا ومواطنين بعينهم، تتحول إلى خصم غير شريف، يستقوي بسلطاته المستمدة من الأمن والممتدة إلى الإعلام العمومي، الذي يسابق جرائد ومواقع التشهير للتبول على أخلاق مهنة الصحافة.

وما سنأتي على ذكره، في هذا المقال، سيؤكد أن بعض ممثلي النيابة العامة لا يعادون من يعادي القانون، كما هو متداول في الأدبيات القضائية، بل يعادون القانون الذي يرون أنه سينصف ويبرئ أشخاصا تعاديهم الجهة السياسية التي باتت ترأس النيابة العامة وتحركها، بعدما استقلت من الجهة الحكومية التي لا تحكم.

إن النيابة العامة التي صمتت صمت الأموات في قضية إعدام ضابط شرطة شابة وشابا، خارج القانون، في الشارع العام وأمام جمهور من المواطنين بالدار البيضاء، قامت بتعميم بلاغ في التلفزيون العمومي وعلى وكالات الصحافة بما فيها الأجنبية بخصوص الصحافية هاجر الريسوني، التي اعتقلها أكثر من عشرة أفراد من فرقة مكافحة العصابات في الشارع العام، صباح يوم السبت المنصرم، هي وخطيبها الشاب الحقوقي السوداني عند خروجها من عيادة طبيبها.

لقد شهّر تلفزيون العرايشي بهذه الصحافية الشابة التي كانت تهيئ رفقة عائلتها حفل قرانها، الذي دُعي إليه أقاربها وأصدقاؤها يوم 14 شتنبر الجاري، في حين أن تلفزيون العرايشي ومنشورات الشرعي والموقع الذي يديره عامل سابق بوزارة الداخلية.. لم يسمع لها صوت في قضية الإعدام خارج القانون الذي قام به ضابط شرطة في حق شابة وشاب في الشارع العام، والذي لا يعرف له المغاربة اسما ولا صورة لحد الآن،

والذي بعدما أصدر رؤساؤه بلاغا يبرؤونه فيه، قبل أن يفسد ذلك شريط فيديو وثّق عملية الإعدام، تمت محاكمته في محكمة للجنايات دون باقي المعتقلين في الملف، الذين يمكن أن يقدموا شهادات مفصلة ضده أمام المحكمة، والذين أحيلوا على غرفة جنحية، على عكس الصحافي حميد المهداوي، الذي رغم متابعته بجنحة، قررت المحكمة ضم ملفه إلى معتقلي حراك الريف المتابعين جنائيا.

لقد جاء بلاغ النيابة العامة حول الصحافية هاجر الريسوني، مليئا بالمخالفات الدستورية والقانونية. فالنيابة العامة طرف في الدعوى العمومية التي رفعتها ضد هاجر، والتي يجعلها الدستور متساوية مع النيابة العامة أمام المحكمة، بالإضافة إلى تمتعها بحماية القاعدة الدستورية بأن البراءة هي الأصل.

فكيف للنيابة العامة أن تدّعي أن المحكمة توصلت بخبرة جديدة يوم 4 شتنبر 2019، في حين أنها تعلم أن المحكمة لم تعقد أي جلسة منذ 2 شتنبر 2019! فهل نحتاج إلى الخشيبات لكي نذكر النيابة العامة بأن المحكمة هي القاضي الذي يرأس الجلسات ويسيرها وينطق بالأحكام ويسمح للنيابة العامة بالكلام أو يمنعها منه، ويقبل منها وثيقة أو يرفضها؟

وكيف للنيابة العامة أن تتطاول على سلطة المحكمة، وهي تعلم أن إضافة أي وثيقة إلى ملف القضية، بعدما حررت صك المتابعة، يلزمها أن تتقدم بشأنها بطلب إلى المحكمة التي ستعطي الكلمة لدفاع الصحافية هاجر الريسوني التي ستقدم طلبها المضاد بشأنها، وفي الأخير سيرجع القرار للقاضي الذي يرأس الجلسة في أن يقبل إضافة جديدة أو يرفضها.

لقد جاء في بلاغ النيابة العامة ما يلي: ” خبرة توصلت بها المحكمة لاحقا بتاريخ 04/09/2019 خلصت إلى ما يلي: أن المعنية بالأمر صرحت للطبيب أنها أوقفت حملاً غير مرغوب فيه إراديا بإحدى العيادات الخاصة”.

فمتى توصلت المحكمة بهذه الخبرة يوم 4 شتنبر، وهي لم تنعقد منذ يوم 2 من الشهر نفسه؟

إن لجوء النيابة العامة إلى إضافة وثيقة جديدة لملف القضية خارج جلسة المحكمة، هو شبيه بتلميذ يستمر في كتابة الأجوبة عن الامتحان، حتى بعدما يرن الجرس ويقوم الحراس بجمع أوراق الامتحان.

الفرق الوحيد بين النيابة العامة والتلميذ، هو أن هذا الأخير لن يجد من يتسلم منه الإجابات، فيما النيابة العامة نصبت نفسها تلميذا وحارسا، لأنها متأكدة بأنه بإمكانها أن تقرع الجرس متى تشاء، وبإمكانها أن تستعمل التلفزيون الممول من جيوب المغاربة لتقول فيه – ضدا على القانون والدستور- إنها هي المحكمة، وليس القاضي الجالس.

إن لجوء النيابة العامة إلى وثيقة جديدة خارج جلسات المحكمة يبعث على القلق الشديد بخصوص عدالة محاكمة الصحافية هاجر الريسوني، ويطرح الأسئلة المزعجة التالية:

على أي شيء، إذن، بنت النيابة العامة متابعتها قبل حصولها على الوثيقة الجديدة، بصرف النظر عن قيمتها القانونية؟

وعلى أي شيء بنت النيابة العامة قرارها بإيداع الصحافية هاجر الريسوني سجن العرجات وحرمانها من حريتها هي وخطيبها، وهي لم تتوصل بوثيقة تؤكد ادعاءاتها إلا في وقت لاحق؟

وبأي حق يُسمح للنيابة العامة باستعمال التلفزيون العمومي لتمرير روايتها ضد مواطنين عزل، من المفروض أن تواجههم بنزاهة أمام المحكمة؟

لقد تعرضت الصحافية هاجر الريسوني لانتهاك حرمة جسدها، وإلى معاملة قاسية وممتهنة لكرامتها كامرأة، عندما قام عميد شرطة الأخلاق بالرباط إلى سوقها، قسرا، إلى المستشفى الجامعي ابن سينا بالرباط، وإخضاعها، ضدا على رغبتها، لفحص مشين قام به أطباء أدوا قَسمَ أبقراط، وهم يعرفون أن لجنة مكافحة التعذيب التابعة للأمم المتحدة صنفت هذا النوع من الممارسات على رأس ممارسات التعذيب التي تستوجب أقسى العقوبات الجنائية،

ويعرفون أنه لا حق لأي رجل أمن مهما كانت صفته، ولا حق لأي ضابط شرطة قضائية مهما علت رتبته، ولاحق لأي موظف نيابة عامة، سواء أكان نائبا لوكيل الملك بمحكمة ابتدائية أو وكيلا عاما للملك بمحكمة النقض، أن يفتش رحم امرأة بمساعدة طبيب أو بدونه. وخاصة إذا كان الهدف من انتهاك حرمة الجسد هذه، هو انتزاع اعترافات تدين هذه المرأة.

أنا متأكد أن كثيرا من الأطباء المغاربة، يشعرون بالعار وبالألم أمام ما قام به زملاؤهم في مستشفى ابن سينا، وهم يرون كيف قطع المجلس الوطني لعمادة الأطباء في تونس، قبل سنتين، مع إجراء فحوصات شرجية قسرية والكشف عن الأعضاء التناسلية، دون طلب من المعني بالأمر، لأن تلك الفحوصات تنتهك اتفاقية مناهضة التعذيب، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

إن ملف هذه القضية يوثق بشكل مفصل لعملية انتهاك حرمة جسد هاجر، رغما عنها، بأمر من ضابط للشرطة القضائية، وبأدوات طبيب في مستشفى جامعي، وبمباركة من النيابة العامة من أجل الحصول على اعترافات تدِينها، لدرجة تجعل قضية تعذيبها واضحة للمجتمع الحقوقي وللعدالة التي أوكل لها الدستور أمر حماية حقوق المواطنين وحرياتهم.

إن النيابة العامة، عندما عجزت عن الحصول على اعترافات تؤكد اتهاماتها لهاجر، في محاضر الشرطة، لجأت إلى استعمال ما قالت إن الطبيب المشارك في انتهاك حرمة جسد هاجر، دوَّنه في تقريره، على أنها تصريحات لها!

فهل تحولت وظيفة التقارير الطبية من التشخيص الطبي إلى تدوين تصريحات المواطنين من أجل إدانتهم؟

كل شيء وارد في بلد يطمح بعض الأطباء والصحافيين فيه إلى أن يصبحوا بوليسا، لأنهم يرون أو يعتقدون أن الأمن هو السلطة الحقيقية الوحيدة في هذا البلد الذي يخشى عليه المثقفون والحقوقيون من أن يتحول إلى دولة بوليسية، وإن كان بعضهم يقول إنه قد تحول.

يمكنكم أن تتبولوا على كل التقاليد والأخلاق، أو “اخرؤوا على كل المذاهب”، كما يقول رجل الدين الشيعي، لكن بيننا التاريخ بكتبه والتاريخ بمزابله.

Sign In

Reset Your Password