بعد خمسين سنة، الطاهر بنجلون يحكي في كتاب جديد قصة اعتقاله سنة 1965

في ذروة تراكم أدبي غني في الشعر والرواية تكلل بجوائز دولية رفيعة وقاعدة قراء بمختلف لغات العالم، يفاجئ الكاتب المغربي الطاهر بنجلون الوسط الثقافي بكتاب فريد عبارة عن سيرة ذاتية خاصة ظلت في صندوق مغلق بالذاكرة لمدة فاقت نصف قرن.
“العقاب” هو عنوان الكتاب الذي أصدره بنجلون بالفرنسية عن دار النشر الباريسية غاليمار (يناير/كانون الثاني 2018) في 160 صفحة من القطع المتوسط، ليكون بمثابة تصفية حساب مع فصل أليم من الماضي الشخصي والجماعي لما تسمى في المغرب بسنوات الرصاص، التي نال الأديب نصيبه من انتهاكاتها.

فضل الكاتب المتوَّج بجائزة الغونكور الفرنسية عام 1987، أن يضيء سياق ودواعي تأليف هذه السيرة الخاصة في فقرة مستقلة عند نهاية النص، كما لو أنه يوثق شعورا بالخلاص والتحرر من عقدة ذاكرة جريحة:

“لأنني تظاهرت بشكل هادئ وسلمي، من أجل القليل من الديمقراطية، عوقبت. على مدى أشهر، كنت مجرد رقم، الرقم 10366. ذات يوم، عانقت حريتي من جديد، حين لم أكن أتوقع ذلك. استطعت أخيرا، كما كنت أحلم، أن أحب، أسافر، أكتب وأنشر العديد من الكتب. لكن، من أجل كتابة “العقاب”، من أجل التجاسر على العودة إلى هذه القصة، والعثور على كلماتها، احتجت إلى قرابة خمسين عاما”.

بلا أي مقدمات، في مطلع الصفحة الأولى، يصفع الكاتب قارئه باللحظة العنيفة التي فتحت باب هذه الرحلة القسرية العصيبة يوم 16 يوليو/تموز 1966، ذات “صباح حالك بسماء بيضاء وبلا رحمة”. يورطه في سفر عبر الذاكرة إلى يوم غابت فيه الكلمات حين “انتزعت أياد قذرة من أم ابنها الذي لم يكمل عامه العشرين” مع وعيد صاعق ردده زوار الرعب “سنربي ابن ال… هذا”.

بلغته البسيطة ونفسه الحكائي الممتد، الذي لا يحتمل الدخول في متاهات تجريبية، يوثق بنجلون مسار النزول إلى الجحيم، بقدرته الوصفية النافذة التي تجلي وجه الأماكن وحقيقة الشخصيات، ظاهرها وباطنها.
تبدأ الرحلة نحو مركز عسكري بمدينة “الحاجب” البعيدة عن بيت العائلة في طنجة، حيث تتلقف الشباب القادمين أيادي عسكريين لا يعرفون الرحمة، يكشف الراوي وحشيتهم بأسمائهم الحقيقية المعروفة في سجل سنوات الرصاص. يستأنف مسار الاحتجاز في مركز “أهرممو” ضاحية مدينة تازة، قبل أن يأتي فرج الحرية على غير المنتظر، لتبدأ حياة جديدة لا تخلو من معاناة. ذلك أن الأسر، كما يصوره الكاتب، لا ينتهي بمغادرة السجن، بل يتناسل في يوميات الضحية، سجنا نفسيا وسلوكيا لا تشرق فيه شمس.

هي سيرة اعتقال وسلب للحرية، لكنها أيضا، بقلم الطاهر بنجلون وانزياحات الحكاية، سيرة روح المقاومة التي إن فقدها المرء، داسته أقدام البطش، وسيرة الوجه العبثي للقمع الذي يفضح جانبا مظلما ووحشيا من طبيعة الكائن البشري، وسيرة الحب أيضا، ذلك الضوء الذي يسعف الضحية على تحمل عدوان وظلم بلا ضفاف، كما أنها سيرة الحرية التي يعلو سهمها كلما غابت في ظلمات القيد وبين جدران الغرف المغلقة.

ذاكرة في قلب ذاكرة. ذاكرة الراوي الذي يستعيد قصة معاناة حدثت قبل خمسين عاما، وذاكرته في زمن الاعتقال، التي كان يطل من خلالها من وراء القضبان على ماضيه، حبه، أسرته، شبابه ونضاله السياسي، وشغفه بالسينما والأدب.

ذاكرة تتجاوز الشخصي لتطل على السياق المجتمعي السياسي، المحلي والدولي، سواء عبر المونولوغ (الحوار) الداخلي للمعتقل، أو أحاديثه مع زملاء الاحتجاز، أو من خلال الراديو السري الصغير الذي كان يتابع به أحداث البلاد والعالم، التي تتيح للراوي/الكاتب أن يعرض رؤيته للمشهد السياسي والسلطة والنخب واليسار والثقافة والفن إلخ.
نزار الفراوي-الرباط

في ذروة تراكم أدبي غني في الشعر والرواية تكلل بجوائز دولية رفيعة وقاعدة قراء بمختلف لغات العالم، يفاجئ الكاتب المغربي الطاهر بنجلون الوسط الثقافي بكتاب فريد عبارة عن سيرة ذاتية خاصة ظلت في صندوق مغلق بالذاكرة لمدة فاقت نصف قرن.
“العقاب” هو عنوان الكتاب الذي أصدره بنجلون بالفرنسية عن دار النشر الباريسية غاليمار (يناير/كانون الثاني 2018) في 160 صفحة من القطع المتوسط، ليكون بمثابة تصفية حساب مع فصل أليم من الماضي الشخصي والجماعي لما تسمى في المغرب بسنوات الرصاص، التي نال الأديب نصيبه من انتهاكاتها.

فضل الكاتب المتوَّج بجائزة الغونكور الفرنسية عام 1987، أن يضيء سياق ودواعي تأليف هذه السيرة الخاصة في فقرة مستقلة عند نهاية النص، كما لو أنه يوثق شعورا بالخلاص والتحرر من عقدة ذاكرة جريحة:

“لأنني تظاهرت بشكل هادئ وسلمي، من أجل القليل من الديمقراطية، عوقبت. على مدى أشهر، كنت مجرد رقم، الرقم 10366. ذات يوم، عانقت حريتي من جديد، حين لم أكن أتوقع ذلك. استطعت أخيرا، كما كنت أحلم، أن أحب، أسافر، أكتب وأنشر العديد من الكتب. لكن، من أجل كتابة “العقاب”، من أجل التجاسر على العودة إلى هذه القصة، والعثور على كلماتها، احتجت إلى قرابة خمسين عاما”.

بلا أي مقدمات، في مطلع الصفحة الأولى، يصفع الكاتب قارئه باللحظة العنيفة التي فتحت باب هذه الرحلة القسرية العصيبة يوم 16 يوليو/تموز 1966، ذات “صباح حالك بسماء بيضاء وبلا رحمة”. يورطه في سفر عبر الذاكرة إلى يوم غابت فيه الكلمات حين “انتزعت أياد قذرة من أم ابنها الذي لم يكمل عامه العشرين” مع وعيد صاعق ردده زوار الرعب “سنربي ابن ال… هذا”.

بلغته البسيطة ونفسه الحكائي الممتد، الذي لا يحتمل الدخول في متاهات تجريبية، يوثق بنجلون مسار النزول إلى الجحيم، بقدرته الوصفية النافذة التي تجلي وجه الأماكن وحقيقة الشخصيات، ظاهرها وباطنها.

يقول بنجلون إنه حكى في كتابه الأشياء “كما جرت في حينها، يوما بيوم دون أن نعرف ما سيحل بنا في اليوم الموالي” (الجزيرة)
تبدأ الرحلة نحو مركز عسكري بمدينة “الحاجب” البعيدة عن بيت العائلة في طنجة، حيث تتلقف الشباب القادمين أيادي عسكريين لا يعرفون الرحمة، يكشف الراوي وحشيتهم بأسمائهم الحقيقية المعروفة في سجل سنوات الرصاص. يستأنف مسار الاحتجاز في مركز “أهرممو” ضاحية مدينة تازة، قبل أن يأتي فرج الحرية على غير المنتظر، لتبدأ حياة جديدة لا تخلو من معاناة. ذلك أن الأسر، كما يصوره الكاتب، لا ينتهي بمغادرة السجن، بل يتناسل في يوميات الضحية، سجنا نفسيا وسلوكيا لا تشرق فيه شمس.

هي سيرة اعتقال وسلب للحرية، لكنها أيضا، بقلم الطاهر بنجلون وانزياحات الحكاية، سيرة روح المقاومة التي إن فقدها المرء، داسته أقدام البطش، وسيرة الوجه العبثي للقمع الذي يفضح جانبا مظلما ووحشيا من طبيعة الكائن البشري، وسيرة الحب أيضا، ذلك الضوء الذي يسعف الضحية على تحمل عدوان وظلم بلا ضفاف، كما أنها سيرة الحرية التي يعلو سهمها كلما غابت في ظلمات القيد وبين جدران الغرف المغلقة.

ذاكرة في قلب ذاكرة. ذاكرة الراوي الذي يستعيد قصة معاناة حدثت قبل خمسين عاما، وذاكرته في زمن الاعتقال، التي كان يطل من خلالها من وراء القضبان على ماضيه، حبه، أسرته، شبابه ونضاله السياسي، وشغفه بالسينما والأدب.

ذاكرة تتجاوز الشخصي لتطل على السياق المجتمعي السياسي، المحلي والدولي، سواء عبر المونولوغ (الحوار) الداخلي للمعتقل، أو أحاديثه مع زملاء الاحتجاز، أو من خلال الراديو السري الصغير الذي كان يتابع به أحداث البلاد والعالم، التي تتيح للراوي/الكاتب أن يعرض رؤيته للمشهد السياسي والسلطة والنخب واليسار والثقافة والفن إلخ.


من المثير للانتباه أن مؤلف “ليلة القدر” يروي حكايته بطراوة جارحة. تبدو يومياته في مركز الاحتجاز كأنها مزامنة للحكي، كأنه لا يعرف بالفعل ما سيقع له غدا

ومن المثير للانتباه أن مؤلف “ليلة القدر” يروي حكايته بطراوة جارحة. تبدو يومياته في مركز الاحتجاز كأنها مزامنة للحكي، كأنه لا يعرف بالفعل ما سيقع له غدا. يعطي الراوي انطباعا بأنه يستعيد ذاكرته بالتقسيط، ويكتب شذراتها في حينها، حارقة موجعة، ومفتوحة على غد بلا عنوان، قد يأتي بحرية يخفت حلمها يوما بعد يوم، وقد يطمره بلا استئذان في قبر بلا شاهد كشأن الآلاف من الضحايا.

بقدر الطابع الشخصي الحي لهذه السيرة الأليمة، فإنها في الآن ذاته عنوان مرحلة بأكملها، سلبت فيها السياسات القمعية لسنوات الستينيات والسبعينيات أرواح وزهرة أعمار الآلاف من الشباب الذين خرجوا إلى شوارع المدن وساحات الجامعات والثانويات مطالبين بالديمقراطية والعدالة.

وهي من هذه الزاوية تنضاف إلى رصيد غني من الإصدارات الأدبية متنوعة الأجناس والأساليب التي راكمتها المكتبة المغربية بأقلام كتاب وكاتبات وثقوا فصولا من حياتهم في غياهب المعتقلات. العناوين طويلة: “مجنون الأمل” لعبد اللطيف اللعبي، الذي يقر الطاهر بنجلون بفضله إذ نشر له أولى نصوصه في مجلة “أنفاس” اليسارية، و”كان وأخواتها” لعبد القادر الشاوي، و”حديث العتمة” للناشطة فاطنة البيه، و”العريس” لصلاح الوديع، و”الغرفة السوداء” لجواد مديدش، و”تازمامرت.. الزنزانة 10″ لأحمد المرزوقي، و”سيرة الرماد” لخديجة مروازي.. بالاضافة إلى الرواية المثيرة للجدل للكاتب الطاهر بنجلون “تلك العتمة الباهرة” التي صدرت له أواخر 2000.
هذه الرواية التي كتبها بنجلون استنادا إلى شهادات أحد الناجين من معتقل “تازمامرت” الرهيب كانت قد جرت عليه انتقادات حادة من جانب عدد من الضحايا والناشطين الذين اتهموا الكاتب بالركوب على المأساة لتحقيق مجد أدبي، بعد أن تحررت الكتابة وبدأ مسلسل طي مرحلة الانتهاكات الجسيمة منذ تسعينيات القرن الماضي، في وقت ظل فيه الكاتب -حسب رأيهم- صامتا تجاه ما حدث وهو مقيم في أمان بفرنسا التي هاجر إليها سنوات قليلة بعد تجربته القصيرة مع الاعتقال.

وعن أسلوبه في كتابة “العقاب”، يقول بنجلون إنه اتخذ قرارا أدبيا بحكاية ما جرى كما هو، بحرارة الحاضر، ودون تلوينات وبهارات. “حكيت الأشياء كما جرت في حينها، يوما بيوم، دون أن نعرف ما سيحل بنا في اليوم الموالي”.

وفي حوار ترويجي للكتاب، نشرته دار غاليمار على موقعها، يصرح الطاهر بنجلون بخصوص سؤال حول ولادته ككاتب في فترة المعاناة تلك: “لم نكن متيقنين بأنه سيفرج عنا يوما، كانوا يرددون على مسامعنا: “لن تخرجوا من هنا أحياء”. كان خوفنا مشروعا، وبدأت أكتب بفكرة رومانسية تقضي بأن أترك شيئا ما بعد موتي لفضح ما جرى. وحيث إني لم أكن أستطيع كتابة الأشياء مباشرة، فقد سلكت أسلوب الرمز، والمجاز والشعر. قصيدتي الأولى نشرتها مباشرة بعد الإفراج عني”.

Sign In

Reset Your Password