النظام متخوف من أي تطور للحراك الجزائري والمحيط الملكي حرك الملف الاجتماعي/ محمد شقير

الحراك الشعبي الجزائري

من الصعب جدا ألا يربط المتتبع للشأن المغاربي أو للشأن العربي التفاعلات المتبادلة بين التحركات الشعبية في المنطقة العربية؛ فعلى غرار ما وقع في الموجة الأولى من الربيع العربي التي تهاوت فيها مجموعة من الأنظمة السياسية في المنطقة العربية (تونس، وليبيا، ومصر، واليمن…) وما حدث من تغيرات دستورية في بعض الأنظمة الأخرى كالمغرب؛ في حين هبت دول عربية أخرى إلى تقديم موارد مالية وعسكرية ولوجستيكية لاحتواء تداعيات هذه الموجة والحد من تأثيرها على استقرار أنظمتها. لكن كل هذا لم يمنع من أن تشهد المنطقة الموجة الثانية من هذا الحراك الربيعي التي بدأت بالإطاحة بنظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير وتقديمه للمحاكمة وتأسيس قيادة سياسية عسكرية مدنية مشتركة انتقالية لتنتشر عدواها على ما يبدو إلى مصر، من خلال خروج مظاهرات احتجاجية ضد نظام الرئيس السيسي.

وقد تزامن الحراك السوداني مع الحراك الذي اندلع في الجزائر ردا على الاستفزاز السياسي لترشح رئيس عاجز لولاية خامسة ونتيجة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها البلاد، بعد الانخفاض الكبير في أسعار البترول التي كانت السلطة تقايض بها السلم الاجتماعي لسنوات وعقود. وقد عمَّ هذا الحراك غير المسبوق في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال معظم المدن والمناطق الرئيسية بالبلاد، ممتدا من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وإلى مناطق القبائل، مثل البويرة وتيزي وزو وبجاية، والإباضيين في غرداية، وجمع الفئات الاجتماعية بمختلف تنوعاتها الأيديولوجية، والعمرية، والحضرية والريفية، والطبقات الوسطى والطبقات الدنيا؛ وتمكن من كسر الحظر الذي كانت السلطات الجزائرية تفرضه على المسيرات في الجزائر العاصمة منذ 2001، وأكسبه جرأة سياسية متزايدة عن تنحية الرئيس عن سدة الحكم، وتقديم مجموعة من المقربين منه للمحاكمة، وعلى رأسهم أخوه المقال ورئيس المخابرات العسكرية السابق وبعض رجال الأعمال. لكن ما أثار الانتباه هو أنه منذ بداية هذا الحراك التزمت مكونات الطبقة السياسية في المغرب صمتا سياسيا مطبقا إزاء تطورات هذا الحراك الذي مازال مستمرا في وقت عمدت إلى اتخاذ بعض الإجراءات السياسية لتدبير الوضع السياسي الداخلي.

الحراك الشعبي الجزائري والصمت الرسمي

من الملفت للنظر أن جل القوى الدولية والإقليمية اتخذت موقفا حذرا إزاء الحراك بالجزائر، وذلك منذ بدايته؛ فقد علّقَ وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بالقول: “إنّ ما يقع في الجزائر شأن داخلي وإن فرنسا لا تتدخل في شؤون الآخرين”، في حين صرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية روبرت بالادينو للصحافيين قائلًا: “نحنُ نراقب هذه الاحتجاجات في الجزائر وسنواصل القيام بذلك… الولايات المتحدة تدعم الشعب الجزائري وحقه في التظاهر سلميا”. وفي المُقابل كان ردّ الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي عن سؤالٍ حولَ المظاهرات في الجزائر بالقول: “إن بلادنا تونس لا يمكن أن تقدم دروساً للآخرين.. ما يحدث في الجزائر شأن خاص… من حق الشعب الجزائري أن يُعبر مثلما يشاء، وأن يختار حكامه بحرية، ولكنني بالتأكيد لا يمكن أن أقدم دروساً لأحد”.

وإذا كان من المفهوم أن يعكس موقف هذه الدول فهمها للحساسية السياسية للنظام الجزائري من أي تدخل خارجي في شؤونه الداخلية، والموقع الجيوستراتيجي للجزائر كدولة محاذية لدول الساحل غير المستقرة بسبب ضعف أنظمتها في مواجهة الجماعات المتطرفة ومافيات تهريب البشر والمخدرات والأسلحة، يبقى موقف الحكومة المغربيّة على لِسان ناطقها الرسمي من عدم التعليق على ما يجري في الجزائر مثيرا لعدة تساؤلات، خاصة أن تداعيات سلبية أو إيجابية لهذا الحراك الشعبي ستنعكس مباشرة على استقراره الداخلي نظرا لعدة عوامل من أهمها:

*تواجد المنطقة الشرقية بتركيبتها البشرية والاقتصادية على الحدود الشرقية، إذ لا ننسى أن حراك الريف الذي استمر أيضا لأكثر من سبعة أشهر سيكون بلا شك قد أثر على تفاعلات الحراك بالجزائر، وكان من بين بعض خلفياته المتوارية.

* خلفيات النزاع الثنائي بين البلدين المتجلي من خلال نزاع الصحراء، والتسابق المحموم نحو التسلح، وإغلاق الحدود البرية، والتنافس الإقليمي….

* تشابه المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها كلا النظامين، والمتمثلة بالأساس في بطالة الشباب وانسداد أفق الأمل لديه، وإغلاق الحدود الأوربية أمام الهجرة، وضعف التأطير السياسي والنقابي لمختلف هذه الفئات…

وقد انعكس هذا الصمت الرسمي منذ بداية الحراك؛ فحتى بعدما رفعت شعارات قدحت في الانتماء المغربي للرئيس بوتفليقة ( بوتفليقة المروكي)، اقتصر الرد الرسمي على بعض التصريحات المقتضبة من مثل أن “المغرب ليست له أي علاقة بهذه الأحداث”؛ وبالتالي فقد حرص الإعلام الرسمي على الاكتفاء بنقل مسيرات الاحتجاج الأسبوعية كل جمعة وثلاثاء دون أن إبداء أي موقف سياسي منها. كما أن التغطية الإعلامية لهذه المسيرات عادة ما لا تأخذ حيزا مهما من مساحة النشرات الإخبارية، ما يذكر بنفس الموقف الرسمي الذي اتخذ في عهد الملك الراحل الحسن الثاني إزاء الحرب الأهلية التي عرفتها الجزائر في عقد تسعينيات القرن الماضي. وقد حاول أحد الباحثين تفسير هذا الموقف بأن “النظام السياسي المغربي لا يملك خياراً غير التحفظ، لأنه إذا عبّر عن موقف مؤيد للاحتجاجات فقد يتورط في توتر جديد مع النظام الجزائري، خاصة لو بقي هذا الأخير؛ أما إذا سانده فسيقع في توتر مع المعارضة الجزائرية”.

وينسحب هذا الموقف على الأحزاب المشاركة في العملية السياسية، إذ تبنت الموقف الرسمي بهذا الصدد.. لكن مقابل هذا التفسير يمكن الإشارة إلى أن النظام يبقى متخوفا من أي تطور لهذا الحراك الشعبي الذي أجبر النظام الجزائري على إزاحة رئيس البلاد، وتقديم محيطه السياسي للمحاكمة؛ إذ إن الاستمرار في الضغط لتغيير جذري للنظام يمكن أن يشكل نموذجا لأي حراك مقبل في المغرب، خاصة بعدما ظهر قصور المقاربة الدستورية في إحداث أي تغيير هيكلي للنظام السياسي، واستفحال الفساد السياسي والاقتصادي والإداري، بالإضافة إلى التراجع في الحركية الحقوقية التي تمثلت في مواصلة اعتقال نشطاء الريف، وملاحقة بعض الصحافيين وتردي وضعية الفئات الوسطى بسبب جشع لوبيات تحتكر قطاعات حيوية كالتعليم والطب، والسكن، والصناعة الغذائية.

– الحراك الشعبي الجزائري والتحرك الرسمي

كان لتداعيات الحراك الجزائري تأثير في تحريك السلطات العليا بالمغرب لبعض الملفات، سواء في المجال الاجتماعي أو الحقوقي أو الحكومي.

– تحريك الملف الاجتماعي

يبدو أن الحراك في الجزائر بمسيراته الشعبية والاحتجاجية، والتي انخرطت فيها شرائح واسعة من الفئات الوسطى من محامين وأطباء وقضاة وموظفين…والمتضررة من الأزمة الاجتماعية التي تفاقمت في الجزائر، خاصة بعد انخفاض أسعار البترول، نبهت مربع القرار الملكي في المغرب إلى ضرورة تحريك الملف الاجتماعي الذي خضع لتجاذبات مكونات المشهد السياسي والحسابات السياسية الضيقة للقيادات الحزبية والنقابية، ما جمد جولات الحوار الاجتماعي وجعلها تراوح مكانها، في وقت تعاني شرائح واسعة من الطبقة الوسطى من تبعات القرارات التي اتخذتها حكومة بنكيران، سواء في ما يتعلق بإصلاح صندوقي المقاصة والتقاعد أو لجم الإضرابات القطاعية من خلال اللجوء إلى الاقتطاع. ولنزع فتيل هذا الوضع الاجتماعي المحتقن، تم حث الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين على التوصل إلى الاتفاق على بعض المطالب الاجتماعية، خاصة المتعلقة بالزيادة في الأجور؛ وهكذا تم الإسراع في التوقيع على اتفاق ثلاثي الأطراف يمتد على ثلاث سنوات (2019-2021) بين الحكومة والاتحاد العام لمقاولات المغرب وكل من الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب والاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، بصفتها مركزيات نقابية أكثر تمثيلية بتاريخ 25 أبريل 2019، أي بعد حوالي شهرين فقط من اندلاع الحراك في الجزائر، في وقت استغرقت جولات الحوار بين حكومتي بنكيران والعثماني والفرقاء الاجتماعيين أكثر من خمس سنوات.

ولعل ما يؤكد هذا المعطى أن الفقرات التي تضمنها هذا الاتفاق أشارت صراحة إلى دور الإرادة الملكية في التسريع بهذا الملف والحسم فيه، إذ جاء فيها ما يلي: “وبهذه المناسبة، وقف الموقعون عند الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى التاسعة عشرة لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين، والذي دعا فيه إلى “استحضار المصلحة العليا، والتحلي بروح المسؤولية والتوافق، قصد بلورة ميثاق اجتماعي متوازن ومستدام، بما يضمن تنافسية المقاولة ويدعم القدرة الشرائية للطبقة الشغيلة بالقطاعين العام والخاص””.

تحريك الملف الحقوقي

سجل الوضع الحقوقي مع حكومة بنكيران تراجعا ملحوظا تمثل بالأساس في متابعة بعض الصحافيين، وإنزال عقوبات ثقيلة على نشطاء حراك الريف، بالإضافة إلى تجميد بعض ملفات لجنة الإنصاف والمصالحة، نظرا للتأخر في تنفيذ كل التوصيات الصادرة عن هذه الهيئة، رغم تكليف الملك محمد السادس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، قبل أن يغير اسمه إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بتاريخ 6 يناير 2006، بمتابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، بما فيها تلك المتعلقة بجبر الأضرار والتعويض المالي والإدماج الاجتماعي وتسوية الأوضاع الإدارية والمالية والتغطية الصحية.

وبالتالي فلتحريك هذا الملف، عمل الملك في البداية على تعيين أمينة بوعياش على رأس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، فسارع هذا الأخير إلى تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، خاصة تلك المتعلقة بتعويض ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان؛ فبعدما قدم اعتذاره للضحايا وذوي الحقوق عن التأخر الذي نتج عنه عدم تمكنه من تنفيذ كل التوصيات منذ سنة 2012، أكد التزامه بمتابعة عمله لطي ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وهكذا شرع المجلس خلال شهر غشت 2019 في تسليم المقررات التحكيمية الخاصة بـ624 مستفيدا من الملفات التي كانت عالقة، بما فيها الملفات الجديدة التي أعلن تسويتها، والمتعلقة بـ39 مستفيدا كانت تنقص ملفاتهم بعض الوثائق، تم الإدلاء بها، و80 مستفيدا من الضحايا المدنيين الذين اختطفوا من طرف عناصر البوليساريو، و28 مستفيدا من ذوي حقوق ضحايا كانوا مجهولي المصير، أدلوا بالوثائق الضرورية لاستكمال إعداد ملفاتهم، بالإضافة إلى بعض ضباط صف مدرسة أهرمومو الذين تورطوا في المشاركة في محاولة الانقلاب العسكري على نظام الراحل الحسن الثاني في بداية سبعينيات القرن الماضي بقصر الصخيرات.

تحريك الملف الحكومي

لقد كان من بين شعارات الحراك الشعبي في الجزائر المطالبة بتغيير الوجوه السياسية التي خدمت نظام الرئيس بوتفليقة المقال، خاصة وزراء حكوماته المتعاقبة في عهده؛ وبالتالي فتحت الضغط الشعبي لم تتم فقط تنحية الرئيس وتعويضه برئيس مجلس الأمّة للقيام بمهام رئيس الدولة لمدة أقصاها تسعون يوما بموجب المادة 102 من الدستور الجزائري، بل تم تشكيل حكومة جديدة في يوم 31 مارس 2019 تضمنت وجوها جديدة مع احتفاظ 6 وزراء بحقائبهم، من أهمّهم نائب وزير الدفاع أحمد قايد صالح.

ولعل هذا الخيار هو الذي حاول النظام تبنيه لحلحلة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بالبلاد. وهكذا فإذا كانت إشاعة تعديل حكومة العثماني للمرة الثالثة تتداول داخل الأوساط السياسية والإعلامية فذلك نظرا للركود الذي عرفه المشهد السياسي بسبب تأخر الحكومة في تنفيذ العديد من المشاريع، بما فيها تلك التي أعلنها الملك، كمخطط تطوير التكوين المهني، والذي فشلت الحكومة في الالتزام بأجندة الملك قصد رفع مشروع متكامل وناجع بشأنه، وسياسة التدبير المائي… ونتيجة للتجاذبات بين مكونات الأغلبية الحكومية التي دخلت في تنافس انتخابي محموم سابق لأوانه.

وفي محاولة لتدبير هذا الوضع حسم الملك من خلال خطاب العرش الأخير في ضرورة إجراء تعديل موسع على الحكومة التي يترأسها العثماني، محددا “أفق الدخول السياسي المقبل كأجل لإنجاز هذا التعديل الموسع. وهكذا تضمن الخطاب الملكي بهذا الشأن ما يلي:

“فالمرحلة الجديدة ستعرف إن شاء الله جيلا جديدا من المشاريع، ولكنها ستتطلب أيضا نخبة جديدة من الكفاءات، في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيئات السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة. وفي هذا الإطار، نكلف رئيس الحكومة بأن يرفع لنظرنا، في أفق الدخول المقبل، مقترحات لإغناء وتجديد مناصب المسؤولية، الحكومية والإدارية، بكفاءات وطنية عالية المستوى، وذلك على أساس الكفاءة والاستحقاق”. ولعل هذا الاهتمام الملكي بضرورة إجراء تعديل على مستوى هيكلة حكومة العثماني وتجويد كفاءاتها هو الذي دفع الملك إلى حث رئيس الحكومة على الإسراع في تشكيل هذه الحكومة قبيل الدخول السياسي الذي حدده خطاب الملك قبيل افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان التي يترأسها.

غير أن تحريك كل هذه الملفات بدفع من أعلى سلطة في البلاد لا يمكن أن يخفف من الاحتقان الاجتماعي والسياسي الذي تعرفه البلاد في محيط إقليمي ملتهب، بعدما وصلته بدايات الموجة الثانية من الربيع العربي التي ضربت السودان وغيرت نظامه السياسي؛ فالأمر يحتاج إلى خلخلة سياسية قوية من الأعلى من خلال تدشين عملية تطهير داخل نخب النظام السياسية والاقتصادية من خلال الحد من الفساد المستشري داخلها؛ بعدما عجزت حكومة بنكيران التي رفعت شعار محاربة الفساد عن مواجهته والعمل على تقليم تغول اللوبيات في دواليب المجتمع ومفاصل الدولة.

ولعل تقارير المجلس الأعلى للحسابات وتقارير لجان التقصي يمكن أن تشكل الأرضية القانونية المناسبة لتدشين هذه العملية بعيدا عن تصفية أي حسابات شخصية أو فئوية، ما قد ينعش الأمل لدى مختلف الشرائح الشعبية المتضررة من هذا الوضع، وقد يحفز بعض فئات الهيئة الناخبة في حال نجاح هذه العملية على الإقبال على المشاركة بشكل مكثف في التصويت خلال الانتخابات القادمة التي لم تعد تفصلنا عنها سوى سنة ونيف.

Sign In

Reset Your Password