الموت المبرمج: المثقف العربي والحراك الجزائري؟ واسيني الأعرج

صورة من نظاهرات الربيع العجزائري

الذاكرة أحيانا تكون شديدة القسوة. تقف دوما بيننا وبين الآخرين. عندما كانت الجزائر تحترق في الطاحونة البشرية في العشرية السوداء، وقف المثقف العربي داخل السؤال الذي صنعه الغرب الاستعماري، ولم يخرج عنه أبدا: من يقتل من؟ مع أن القاتل كان معروفا إذ كان يفاخر بجرائمه علانية، والمقتول أيضا لأنه كان يواجه بصدره العاري سكاكين القتلة الإرهابيين. وبدل أن يتوجه المثقف العربي نحو الحقيقة القاسية، دفن نفسه في حواشيها لأن ذلك أريح بالنسبة له. يوفر له بعض الرضى الذاتي الذي لا يحمله اية مسؤولية. واضطرت الجزائر أن تواجه مصيرها بعقلية الساموراي إذ لا خيار إما الدفاع أو الموت. وبعد عشر سنوات من التذابح والتقاتل، و200 ألف ضحية، خرجت البلاد بخسارات فادحة من حرب مظلمة، قادها الظلام ومنهاها كان هو الظلام. نكاد لا نقرأ في هذا السياق أية مقالة تضعنا أمام التحليلات الكبرى لما لا يراه القارئ العادي. وبدل محاولة الفهم، ظل المثقف العربي حبيس المسبقات الجاهزة. لن نر مثقفا عربيا غامر وجاء ليعيش الحرب الأهلية أو الحرب ضد الأهالي ليكون قريبا ويكون حكمه أدق. خوان غوتيسولو مثلا، المرشح لنوبل العديد من المرات، جاء وعبر الأماكن الخطيرة، ودخل إلى القصبة وحاور الناس ثم عاد إلى إسبانيا وسجل ما رآه. ودخلنا، مع المثقف العربي، في منطق يساوي بين القاتل والمقتول، والمتعدي والمعتدل عليه.

 وأثبت التاريخ أن الإرهاب ليس تفكيرا حرا مهما تظاهر بدفاعه عن الديمقراطية عندما تكون في صالحه، ولكنه آلة جهنمية هدفه الاستيلاء على السلطة، بكل الوسائل بما في ذلك الوسيلة الدينية التي تجرد من كل إنسانيتها ويتم تحويلها إلى قنابل وسكاكين لتقطيع اللحم البشري. كانت الجزائر يزمها، بالنسبة للغرب والقوى الجهوية، مخبرا لكل ما أتى لاحقا بشكل عنيف، وتغيرت الموازين. نفس المثقف الذي كان يدافع عن الإرهابين، اصبح ييبنهم ويفضح ممارساتهم. وابن لادن الذي صنعته المخابر الصهيونية والأمريكية والأوروبية وحتى العربية، الذي كان نموذجا للتحرر من الزحف السوفياتي، أصبح العدو رقم 1 الذي يجب أن يقتل. وقتل في ظروف شديدة البشاعة في مجتمعات الحرية وحقوق الإنسان.

هو نفس المنطق الذي أتي بالزرقاوي والبغدادي وغيرهما، قبل أن يصمت هذا المثقف عليهما، ونعرف اليوم بما لا يدع مجالا للشك أن الإرهاب أداة مخبرية، وجدت مبرراتها في فساد الأنظمة العربية والدكتاتوريات المستشرية التي إلا صنيعات تاريخية بدورها لمواصلة نهب خيرات المال العربي بدون حروب. غياب التحليل الكلي لهذه الظواهر جعل المثقف العربي تبعي وليس سباقا ومحللا ومستشرفا. الإرهاب الكبير هو هذه الصيرورة التي خلقت وهذه الآلة التي أنشئت خصيصا لتدمير كل ما بقي واقفا في العالم العربي وبشكل كلي. وأصبح من الصعب على هذا المثقف رؤية الحقائق في أفقها التحولي، باتجاه عالم أفضل. الثورات العربية قامت من أجل هذا، لكن لا صوت لمن تنادي. أصبح المثقف العربي ما تجب رؤيته لكنه يرى ما يؤمر برؤيته بشكل مباشر أو غير مباشر.

اليوم، نكاد نشهد نفس ردود الفعل من الحراك الجزائري. لا مثقف عربي كبير، قام بتحليل الحالة لأنها جديدة على المشهد الإنساني والجزائري وتستحق التأمل، في وقت عشرات المقالات التي تنزل يوميا في العالم الفرانكفوني. يستحق هذا البلدان أن يحاط بالرعاية الثقافية الضرورية من الباب التنويري إذا ما يزال للثقافة دورها الفعلي في التغيير على الأمد المتوسط أو البعيد. هل كان يجب انتظار تدهور في الوضع في السودان ليبدأ هذا المثقف العربي بالندب والكتابة؟ ألم تكن أمامه فرص حقيقية ليس للتضامن فقط، ولكن أيضا الكتابة الواعية والإنسانية. حتى عندما مزقت أوصال السودان شمالا وجنوبا، نفس المثقف نراه يبحث عن مخارج تبرر التقسم بوصفه مسارا ديمقراطيا صحيحا. السودان اليوم يعيش وضعا دمويا وتشتعل المواقع بذلك.

 ألم يكن من الأجدى الكتابة عن الظاهرة السودانية التي انطلقت من خصوصياتها الوطنية وثورتها، ويتضح بسرعة أن ما حدث في السودان لم يكن إلا انقلابا عسكريا كان لابد له من إخراجه بشكل أنيق تفاديا للنقد الذي يمكن أن تصدره منظمة الدول الأفريقية التي لا تعترف بأنظمة تأتي عن طريق الانقلابات.

في الجزائر حراك لم يحدث من قبل في العالم العربي بتلك الطريقة الخلاقة، حاول أن يستفيد من كل الهزائم العربية المتكررة التي أجهضت الثورات العربية وحولتها إلى حروب أهلية مدمرة. أكثر من عشرين مليون في الشوارع لا قوة تقف أمامهم. لا شرطة ولا أمن يعرف جيدا كيف يتعامل مع الظاهرة. نصف ساكنة الجزائر خارج بيوتها. لم توقفها متاعب شهر رمضان. الكثير من الناس يفطرون في الشوارع لان النضال من أجل الحق يستحق ذلك بامتياز. أبطال وشخصيات تخرج من رحم الحراك. مطلب أساسي كبير حملته كشعار يغطي على الكل: ارحلوا كلكم. كل من تسببوا في انهيار البلاد، نهبوا كل خيراتها، وتجرؤوا على تحويل بقايا رئيس مريض إلى رمز للإنهاك والانتهاك السياسي.

وتعويضه بإطار يحضر افتتاح المؤتمرات، ويستقبل الهدايا في سخرية مقيتة بكل الإرادة الشعبية. هي نفسها تلك الإرادة التي خرجت تدافع عن حقها الوجودي. لهذا كان الشعار رحلوا جميعا. وبقي الخيار السلمي للحراك سيدا فوق كل شيء. أسقط العهدة الخامسة التي أفاضت الكأس. أسقط الرئيس ولك كان مجرد ظل، عندما زال، ظهرت العصابة التي كانت تتخفى وراءه، مجموعة من الذئاب الجائعة والضباع المفترسة القاسية. فقد نزل الشعب بالجزائري منذ اللحظة الأولى شكل حضاري وسلمي. وعلى مدار ١٦ أسبوعا بلا موت ولا قتل، ما يزال مستمرا يعطي درسا للمثقف العربي الذي لم يحركه أي شيء، حتى من باب التضامن. مسيرات مخيفة. مرعبة لأي نظام عربي كان. فجأة يستيقظ شعب سرق منه كل شيء، حتى حقه في الوجود. استلم مصيره بيده. ماذا لو نجح كليا هذا الحراك؟  كيف سيكون تأثيره العربي تحديدا، في عالم عربي ميؤوس من إصلاحه؟ نتوقف هنا أملا بأن يدرك المثقف العربي أن المسألة تهم الجزائر والشعب الجزائري بالدجة الأولى، لكن تهم بشكل كببر العالم العربي.

Sign In

Reset Your Password