المكاسب الاستراتيجية للصين من حرب روسيا ضد أوكرانيا

الرئيس الروسي ونظيره الصيني

تعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا منعطفا يدخل العلاقات الدولية بشقيها الدبلوماسي والعسكري مرحلة جديدة، وتتعدد زوايا المعالجة من تكتيك عسكري وعقوبات اقتصادية وتحالفات دبلوماسية بهدف محاصرة الحرب ومعاقبة موسكو. ويبقى أحد أهم الجوانب في هذه الحرب هو الموقف الصيني بحكم العلاقة الخاصة التي تجمع بين بكين وموسكو، ثم مستوى استفادة الصين من هذه التطورات التي تشكل تحديا للغرب ولاسيما الولايات المتحدة.

في هذا الصدد، كشفت جريدة «نيويورك تايمز» الأسبوع الماضي كيف طرقت واشنطن باب بكين خلال الأسابيع الأخيرة وقدمت لها كل المعطيات التي تشير إلى قرار روسيا شن حرب على أوكرانيا، وطلبت من القادة الصينيين التوسط لدى القيادة الحاكمة في الكرملين وإقناع الرئيس فلاديمير بوتين بتجنب الحرب ضد جارته الغربية. وقدمت بكين كل المعطيات إلى موسكو بدل لعب دور الوساطة والسلام. ومن جهة أخرى، لم تقدم الصين على التنديد بالحرب الروسية ضد أوكرانيا، فقد امتنعت عن إدانة الحرب في مجلس الأمن ثم في التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ولم ترحب بالعقوبات الاقتصادية التي يحاول الغرب فرضها على روسيا بسبب الحرب.
وتبرز هذه المعطيات كيف تساند الصين روسيا في سياستها الحربية الحالية رغم عدم التأييد العلني للحرب ضد أوكرانيا. وعمليا تعتبر الصين من الرابحين في هذه الحرب في الوقت الراهن وفي المستقبل. ويمكن رصد المكاسب الاستراتيجية للصين من الحرب التالية على مستويات متعددة، أبرزها:

الحرب من أجل الأمن القومي

شنت روسيا الحرب ضد أوكرانيا يوم 24 شباط/فبراير الماضي تحت ذريعة الدفاع عن الأمن القومي والحد من توسع منظمة شمال الحلف الأطلسي. وتخرق هذه الحرب المواثيق الدولية وخاصة قوانين الأمم المتحدة لكونها تخضع لمفهوم الحرب الاستباقية. وعدم معارضة الصين للحرب معارضة واضحة يعني تفهم مطالب روسيا الخاصة بأمنها القومي. وعليه، قد تجد الصين نفسها مستقبلا في الوضع نفسه إذا دعت الضرورة بالتدخل في دول جارة للدفاع عن أمنها القومي، أي تطبيق الحرب الاستباقية.

مبرر لاستعادة تايوان

من ضمن مظاهر الحرب الحالية هو إصرار روسيا على اعتراف رئاسة كييف بشبه جزيرة القرم، أي استعادة أراض روسية جرى إلحاقها بأوكرانيا في ظروف تاريخية معينة إبان الخمسينات، ذلك أن القرم تعد أرضا روسية عبر التاريخ. وهذا المعطى يعد تبريرا كافيا للصين لاستعادة تايوان مستقبلا إلى حظيرة الوطن الأم إذا اقتضى الأمر استعمال القوة. ومنذ اندلاع الحرب، يعالج عدد من الخبراء والمحللين فرضية احتمال انتقال عدوى موسكو إلى بكين في تعاطيها مع تايوان، أي شن حرب لاستعادتها. وتهدد الصين في بعض المناسبات بشن حرب لاستعادة الجزيرة إلى حظيرة الوطن لاسيما وأن المنتظم الدولي لا يعترف بتايوان كدولة مستقلة باستثناء دول قليلة ولا وزن سياسيا لها.

الحد من هيمنة الحلف الأطلسي

تدرك الصين أنها ستكون هدفا للحلف الأطلسي مستقبلا مثلما هو الحال مع روسيا في الوقت الراهن، حيث تصنف كل الأدبيات العسكرية لهذا الحلف موسكو بمثابة العدو ليس المفترض بل الواقعي. ولهذا يجري توسيع الحلف كما يجري نصب أسلحة متطورة مثل الدرع الصاروخي في كل من إسبانيا ورومانيا وبولندا لاعتراض الصواريخ الباليستية والنووية الروسية. وتؤكد تقارير أنجزتها معاهد التفكير الاستراتيجي الصينية أن الحلف قد يتوسع إلى منطقة آسيا إذا وجد فرصة لذلك. وتعتبر دول مثل اليابان وكوريا أعضاء غير مباشرين في الحلف نظرا لاحتضانهم قواعد عسكرية أمريكية، ثم التعاون العسكري الكبير بين الولايات المتحدة وهذه الدول. وتعرب الصين عن قلقها من منح واشنطن صفة «شريك خارج الحلف» لكل من اليابان وكوريا الجنوبية ثم منح صفة أكبر للهند باعتبارها «شريكا دفاعيا رئيسيا» ابتداء من 2016.

من الشراكة إلى التحالف

توجد تصنيفات في العلاقات الدولية للتعبير عن مستوى الصداقة، وهي عموما ثلاثة صديق ثم الانتقال إلى وضع متقدم وهي الشراكة وأخيرا الوضع المتقدم جدا وهو التحالف الذي يعني المصير المشترك في الكثير من القضايا. وشهدت العلاقات بين موسكو وبكين خلال العشرين سنة الأخيرة هذه المستويات الثلاثة، فقد جرى التخلي عن الصراع وغياب الثقة الذي ساد إبان حقبة الاتحاد السوفييتي وفتح المجال أمام الصداقة بعد تفكك هذا الاتحاد. وسجلت العلاقات مرحلة متقدمة في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين نحو شراكة متينة، وأخيرا الانتقال التدريجي إلى مفهوم «التحالف» خلال العشر سنوات الأخيرة ولاسيما بعدما وقفت الصين إلى جانب روسيا بعد العقوبات التي تعرضت لها سنة 2014 عندما ضمت شبه جزيرة القرم إلى وحدتها الترابية. ومن أبرز علامات هذا التحالف هو اجتماع كل من الرئيس بوتين نظيره الصيني شي جينغ بينغ 37 مرة خلال العشرين سنة الأخيرة، وهو رقم قياسي في العلاقات الدولية يصعب العثور عليه بين زعماء باقي الدول. في الوقت ذاته، يتبنى البلدان المواقف نفسها في المنتديات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن حيث يتمتعان بحق الفيتو، إذ لم يعد هذا المجلس يشهد نشاط وتنسيق الثنائي التاريخي الولايات المتحدة-بريطانيا بل الصين-روسيا كذلك.
ومن جانب آخر، تدرك بكين رهان موسكو عليها للتقليل من تأثيرات العقوبات الاقتصادية سواء الاستثمار أو امتصاص الصادرات لاسيما من الطاقة. ووفّر الغربيون للصين الفرصة التاريخية لتعميق المصالح الاقتصادية مع أكبر دولة ذات الموارد الزراعية والطبيعية والثروات المعدنية والطاقة في العالم، لاسيما في ظل افتقار الصين للكثير من المواد الأولية والحاجة الماسة لها. وتتعهد الصين باستقبال كل صادرات الطاقة من نفط وغاز الذي تصدره روسيا إلى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وسجلت سنة 2021 ارتفاعا في المبادلات التجارية بما يفوق 35 في المئة ليحقق 140 مليار دولار. وهذه المبادلات مرشحة إلى 200 مليار دولار سنة 2024 أي في ظرف سنتين، لتصبح الصين الشريك الأول لروسيا بدل الاتحاد الأوروبي حاليا. ونظرا لضخامة الاقتصاد الصيني الذي يناهز 15 ألف مليار دولار كناتج إجمالي خام، فلن تشكل مئة مليار دولار كاستثمارات وكرفع للواردات من روسيا تحديا للاقتصاد الصيني بل فرصة تاريخية.
وترقى الشراكة بين بلدين إلى تحالف حقيقي عندما يجري الرفع من التنسيق العسكري عبر المناورات المشتركة في مناطق تتعدى الحدود المشتركة وأراضي البلدين إلى مناطق من العالم. في هذا الصدد، تستوعب الصين جزءا هاما من صادرات روسيا من السلاح، وبدأ البلدان في مناورات عسكرية سواء في بحر الصين أو بالقرب من سيبريا أو في البحر الأبيض المتوسط وبالقرب من الخليج العربي.
وخلال نهاية تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، صادق وزيرا دفاع روسيا سيرجي شويغو، والصيني وي فنغي، على خريطة طريق لتعزيز التعاون العسكري حتى عام 2025 والتي ستتخذ شكل تعاون في «الجو والبحر والأرض». تأتي خريطة الطريق بعد أيام فقط من قيام روسيا والصين بدوريتهما المشتركة الثالثة بطائرات استراتيجية فوق مياه بحر اليابان وبحر الصين الشرقي. والمثير هو اتفاق البلدان على تحالف يكاد يكون استراتيجيا على بعد أقل من ثلاثة أشهر من حرب روسيا ضد أوكرانيا. ولا يمكن الحديث عن عدم علم الصين بمخططات موسكو في أوكرانيا، الأمر الذي يؤكد الدعم الذي كاد يكون مباشرا لسياسة موسكو الحالية بشأن ما تعتبره حماية أمنها القومي.
تدرك الصين مخططات جزء من الغرب وخاصة إبان رئاسة الأمريكي دونالد ترامب باستمالة روسيا وجعلها أول درع في مواجهة الصين، لكن بعد إصرار الحلف الأطلسي التوسع نحو أوكرانيا وردة فعل موسكو، يكون الغرب قد جعل بكين تحقق أكبر المكاسب الاستراتيجية وهي جر روسيا إلى صفها عسكريا ثم ربطها اقتصاديا بالاقتصاد الصيني.
عموما، الصين تدرك أنها العدو المقبل للغرب وخاصة الولايات المتحدة بسبب التنافس على ريادة العالم، ولهذا تجد في هذه الحرب الحالية الفرصة التاريخية لتحقيق مكاسب استراتيجية.

Sign In

Reset Your Password