المخابرات المدنية المغربية DST بين عهدي الحسن الثاني ومحمد السادس: الجزء الأول/الحسن الثاني

يعيش المغرب في الوقت الراهن حالة من الغليان السياسي والاجتماعي في إطار الربيع العربي، ومع هذه التطورات تصبح المخابرات المغربية وخاصة المدنية منها مطالبة أكثر من أي وقت بإنجاز تقارير للمؤسسة الملكية ترصد الوضع وتقترح توصيات وحلولا حول طريقة التعامل مع المستجدات. وبهذا فهي تساهم في صنع القرارات التي يتخذها الملك كما تؤثر على توجيه الأحداث المستقبلية.  ويبقى التساؤل الأساسي، هل تراعي التقارير المصداقية المطلوبة حتى يكون اتخاذ القرار من طرف السلطات العليا صائبا؟ ومن جهة أخرى، هل التزمت هذه المخابرات الأمانة في تعاملها مع الواقع أم زيفت التقارير وبالتالي تتحمل بدورها جزءا كبيرا في المآسي التي وقعت منذ الاستقلال حتى وقتنا الراهن ؟ وأخيرا، هل يمكن إصدار قانون لمراقبة المخابرات على شاكلة الدول الديمقراطية؟

القرار السياسي في المغرب يجري اتخاذه وفق التقارير الأمنية والاستخباراتية ذات الطابع السياسي التي يجري تقديمها إلى الملك، سواء في عهد الملك محمد السادس أو في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.  ورغم التطور الذي يشهده المغرب ومنح صلاحيات أكبر لرئاسة الحكومة مقارنة مع الماضي، لا يتوصل رئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران بتقارير المخابرات لا المدنية ولا العسكرية، بل فقط بملخصات صغيرة أحيانا يمده بها وزير الداخلية. وعموما، على ضوء هذه التقارير يقرر الملك الخطوات المستقبلية خاصة في مجال الأمن السياسي بمفهومه الأوسع، مستوى الانفتاح على الأحزاب ومستوى المبادرات في ملفات حساسة مثل الأمازيغية والاسلام السياسي. فكيف كان يتعامل مدراء المخابرات المدنية واسمها الرسمي “مديرية المحافظة على التراب الوطني” DST مع الأوضاع السياسية والاجتماعية في المغرب.

 إنشاء الاستخبارات المدنية بمعزل عن العسكرية

في إطار استخلاص الدروس من العسكريين الذين نفذوا الانقلابين الفاشلين سنتي  1971 بزعامة الجنرال المذبوح و1972 بزعامة الجنرال أوفقير، عمل الملك الراحل الحسن الثاني على إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للحصول على مصادر متعددة للأخبار والتقييم. في هذا الصدد، أقدم على هيكلة الأجهزة الاستخباراتية من خلال الفصل بين العسكري والمدني. وقبل هذا القرار، كان المغرب يشهد جهازا واحدا للإستخبارات وهو  “الكاب” وتحت السلطة المطلقة خضع للسلطة المطلقة للجنرال أوفقير، واقتصرت  مهامه  على ما هو أمني بمفهومه البوليسي أكثر من طبيعة الاستخبارات الحديثة. وعمل في صفوف هذا الجهاز مدنيون وعسكريون. وكان الرأي العام المغربي يعرف وقتها الاستخبارات ب”دوزييم بيرو” أي المكتب الثاني، لكن هذا المصطلح غاب الآن وحل محله “ديستي” والبعض يسميها شعبيا ب “دار سيدي التهامي”.

حسين جميل أول مدير للمخابرات المدنية

قرار إنشاء المخابرات المدنية جرى سنة 1974 وبتوصية من الفرنسيين، ولهذا فالجهاز يحمل اسم مطابق للاستخبارات الفرنسية. وأراد الملك الراحل الحسن الثاني اختيار مدير لهذا الجهاز على أساس أن يكون مدنيا، وفق المعطيات عن مصدر عاش تلك الحقبة “كان أمام الحسن الثاني الكثير من الأسماء، ولكنه ركز على ثلاث منها، إدريس البصري الذي كان وقتها يشغل منصبا هاما في وزارة الداخلية وكان قد بدأ يحضر الاجتماعات الداخلية للحسن الثاني، العشعاشي الذي كان من الضباط المدنيين الرئيسيين في الكاب ثم حسين جميل، وهو ضابط شرطة كان الجميع يعترف له بالحنكة الميدانية، وفي آخر المطاف وقع الاختيار على حسين جميل”.

ومن خلال الكثير من الآراء أنه لا يمكن نهائيا كتابة تاريخ المخابرات المدنية بدون التركيز على هذا المدير الذي مازال حيا يرزق ويقيم في منزل فخم في شمال المغرب بعيدا عن العاصمة الرباط التي تعتبر عادة الملجأ الآمن للمسؤولين الأمنيين بعد تقاعدهم. وكان حسين جميل ضابطا عاديا في الاستعلامات إلا أن الأنظار ستتركز عليه بعدما كان أول شخص يخبر جهات عليا بسقوط الثائر شيخ العرب. وكانت أجندة المدير الجديد تضمنت النقط الرئيسية التالية:

-مراقبة المؤسسة العسكرية الخارجة لتوها من انقلابين، وذلك من خلال استقطاب ضباط متوسطين يعدون تقارير حول بعض الضباط المشتبه فيهم، وهذا يعني أن المخابرات المدنية كانت لها مهام شبيهة بالمهام التي ستوكل إلى المكتب الخامس لاحقا أو الاستعلامات العسكرية الداخلية.

-مراقبة المجتمع السياسي من خلال استقطاب زعماء سياسيين وتقزيم دور اليسار الكلاسيكي المتمثل في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ولاحقا الاتحاد الاشتراكي ثم مكافحة الفكر الماركسي من خلال تفكيك الخلايا السرية لتنظيمات مثل إلى الأمام و23 مارس ولاسيما ضرب أي تنسيق بينها وبين حركات خارجية.

-والنقطة الثالثة، وكانت تقنية وتتجلى في هيكلة قوية للمخابرات المدنية والعمل على فصلها عن الجيش والشرطة، رغم أن مدير المخابرات كان عمليا وقانونيا تابعا لمدير الأمن الوطني.

ونجح المدير الجديد في هيكلة المخابرات على المستوى الوطني، واستمر العمل بالمديريات التي أحدثها إلى غاية السنين الأخيرة عندما تم الرفع من عددها في عهد المدير الحالي الحموشي ابتداء من سنة 2007. لكن حسين جميل لم يتخلص من الرؤية الأمنية الضيقة التي سادت في الستينات والسبعينات، فكانت التقارير التي يرفعها  إلى الحسن الثاني حول مستوى قوة اليسار الراديكالي وكذلك حزب الاتحاد الاشتراكي مبالغ فيها، وترتب عنها صدور أوامر بالاعتقال والتعذيب والمحاكمات الصورية. ولعل التفسير الرئيسي لهذه المبالغة هو أن جهاز المخابرات وقتها كان يفتقد لمفهوم الاستخبارات الحقيقية المتمثل في تحليل المعلومات وتقييم الوضع وتقديم توصية في الموضوع. فرغم أن الفكر الماركسي لم يكن متغلغلا نهائيا في الجيش وحضوره وسط المجتمع لم يتعدى مجموعة من الشباب البعض منهم كان في طور المراهقة السياسية واكتشفوا لتوهم عالم كارل ماركس إلا أن القمع المفرط كان هو الطريقة المتخذة في معالجة الحركة الماركسية المغربية. ونتج عن هذا الخطأ في التقييم السياسي تقديم المغرب لفاتورة مرتفعة الثمن سياسيا في ملف حقوق الإنسان أمام الرأي العام الدولي، وكان من نتائج هذه السياسة الأمنية ضد اليسار، قيام فالسوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي حاليا) في بداية التسعينات بإلغاء وتجميد الكثير من الاتفاقيات مع المغرب واشترطت إطلاق سراح نشطاء اليسار، وهو ما رضخ له الحسن الثاني في آخر المطاف.

ومن جهة أخرى،  كان الحسن الثاني يرغب في جهاز استخباراتي منفصل عن الجيش، ولكن حسين جميل بقي يعمل تحت أوامر الجنرال أحمد الدليمي وكان ذلك طبيعيا بحكم أن الحسن الثاني سلم مقاليد أمن البلاد إلى الدليمي. وعندما وقعت تصفية الدليمي يوم 23 يناير 1983 سيتعرض حسين جميل للإقامة الإجبارية وليس للاعتقال كما حدث مع مساعدي الجنرال ومن ضمنهم الكومندار الطبجي. وكان السبب السبب الحقيقي وراء الاقامة الإجبارية  في حق حسين جميل إضافة إلى فرضية تعاطفه مع الدليمي أن وزير الداخلية الراحل إدريس البصري لم يغفر له أبدا أنه كان يزود الجنرال الدليمي بمختلف التقارير ويقدمها الأخير إلى الملك مباشرة عند الظهر، وبالتالي كانت تقارير البصري التي يقدمها إلى الحسن الثاني في المساء دون أهمية ودون جدوى طالما أن الملك سبق وأن اطلع عليها ساعات من قبل. وجرى رفع الاقامة الإجبارية عن حسين جميل بل واتخذه الحسن الثاني بمثابة مستشار خاص غير رسمي في الشؤون الصحراوية بحكم اطلاعه على الملف.

فترة عبد العزيز علابوش وسيطرة البصري على المخابرات

بعد إقالة حسين جميل، بقي منصب المدير شاغرا من 1983 إلى 1985، تاريخ تعيين علابوش الذي جمعته  صداقة وثيقة بالوزير الراحل إدريس البصري. تعيين علابوش تزامن وانفلات المخابرات المدنية من هيمنة الجيش المتمثلة في الجنرال الدليمي،  وأصبحت  تحت سيطرة إدريس البصري الذي تحول ابتداء من منتصف الثمانينات إلى الرجل القوي في مملكة الحسن الثاني، وتولى عرش الملوك غير المتوجين أمثال أوفقير والدليمي.

وفي عهد المدير الجديد تراجع العنف السياسي، رغم تورط المخابرات في تضخيم ملفات بعض المعتقلين ومن منهم مجموعة 26 التابعة لتنظيم إلى الأمام سنة 1986. ولعل السبب في هذا التحول هو  الضغط الدولي من جهة ومن جهة أخرى التحول الذي طرأ على الحسن الثاني الذي كان يفكر ومنذ أواسط الثمانينات في إرساء أسس السلم الاجتماعي، حيث بدأ وقتها يخطط لآليات انتقال العرش بعدما ارتفعت معاناته مع مرض القلب.

هذه الفترة تميزت بنوع من التسيب وسط  هذا الجهاز وعدم الانضباط وخاصة في بعض المناطق الواقعة في “مثلت الإغراء” طنجة-تطوان-الناضور، وهي مناطق معروفة بالمخدرات والتهريب. وتحول بعض رجال الاستخبارات إلى أشبه برجال الأعمال مستغلين موقعهم الأمني لابتزاز  بارونات المخدرات بدل محاربتهم. ولم يتردد ضباط منهم في الجمع بين العمل الاستخباراتي والسمسرة في جوازات السفر والسيارات. وهي فترة سوداء في تاريخ المخابرات بحكم أن بعض الأجهزة الإستخباراتية الخارجية استطاعت استغلال تورط بعض أعضاء المخابرات المغربية في المخدرات للضغط عليهم وتحويلهم إلى عملاء لديها، وهو ملف لم يتم التطرق إليه نهائيا بشكل علني إلا مرة واحدة في البرلمان سنة 2000.

والقفزة النوعية التي أراد تحقيقها إدريس البصري وعلابوش لم تكن في تحديث عمل الاستخبارات كمؤسسة بل اقتصر على تكوين ضباط وإرسالهم إلى الخارج ضمن البعثات الدبلوماسية والعمل تحت يافطة قناصلة أو نواب القنصل لمراقبة الهجرة المغربية وخاصة نشطا اليسار وكذلك أعضاء البوليساريو. ولكن، هذه المبادرة لقيت معارضة شديدة من المخابرات العسكرية وكان مديرها الجنرال عبد الحق القادري وكذلك من طرف وزير الخارجية وقتها عبد اللطيف الفيلالي الذي كان يتخوف من تحول وزارة الخارجية إلى ملحقة للداخلية مما سيؤثر على صورتها في الخارج.

فترة بن إبراهيم القصيرة

وجرت إقالة علابوش من منصبه سنة 1998 بقرار من الملك الحسن الثاني الذي كان يرغب في مدير للمخابرات يتسم بالنزاهة وبدون مضاض مرتبط بالكاب ولم يسبق له أن عمل تحت أوامر أوفقير والدليمي والبصري. ويبدو أن الملك الراحل كان يرغب في  في نوع من الانتقال وسط المخابرات يوازي التناوب السياسي مع وصول المعارضة بزعامة الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي إلى الحكم.

ولا يمكن تقييم هذه الفترة بحكم أنها كانت قصيرة. وعمليا، الكثير من الشهادات التي كانت قد نقلتها أسبوعية الأيام وحتى من طرف الوزير الراحل البصري تصف مدير المخابرات بالرجل المستقيم الذي لم تشهد فترته القصيرة الكثير من الخروقات لحقوق الإنسان مقارنة مع الماضي، بل شهدت عملية تنظيف وسط الجهاز للعناصر الفاسدة. إلا أن فترة ابن إبراهيم على كرسي المخابرات لم تدم طويلا لأن العهد الجديد مع الملك الحالي محمد السادس اعتبر ابن إبراهيم من مخلفات إدريس البصري وأقاله وعينه بدله الجنرال حميدو العنيكري في منصب مدير المخابرات.

مقال ذو صلة : المخابرات المدنية المغربية  DST بين عهدي الحسن الثاني ومحمد السادس:  الجزء الثاني /محمد السادس

Sign In

Reset Your Password