القضاء الفرنسي يصحح مذكرات ساركوزي حول القذافي/د. حسين مجدوبي

الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي رفقة الرئيس الليبي المغتال معمر القذافي

قرأت مذكرات الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي «زمن العواصف» الصادرة نهاية يوليو/تموز الماضي، التي روى فيها جزءا من مسيرته السياسية، خاصة العلاقات مع زعماء الدول ومنها افريقيا. وبحثت كثيرا عن نوعية العلاقة التي جمعته بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي، ولكنه لم يقدم المعطيات الحقيقية، واكتفى بصياغة صورة غرائبية عن «زعيم ثورة الفاتح». وسيتولى القضاء الفرنسي الآن إعادة كتابة، أو بالأحرى تصحيح هذه المذكرات، وهي «تمويل القذافي لحملة ساركوزي الرئاسية».
في العلاقات الدولية، يجري الحديث كثيرا عن تمويل الحملات الانتخابية، خاصة الرئاسية في هذا البلد أو ذاك، وهي في الاتجاهين من العالم الغربي نحو دول من العالم الثالث، أو من دول العالم الثالث نحو دول غربية معينة. ومنذ الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، التي فاز فيها دونالد ترامب، والولايات المتحدة تتفاجأ بين الحين والآخر، بتدخل مباشر سواء على مستوى الدعم اللوجيستي مثل حالة روسيا، أو الدعم المالي المفترض من طرف بعض دول الخليج. ومن الدول التي شهدت تمويلا أجنبيا، أو من عصابات المخدرات لحملات انتخابية، ما يجري في دول أمريكا اللاتينية. ويكون القضاء دائما الموعد.
ويبدو أن هذا ما يحصل مع الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي المثير للجدل. وبدأت الحكاية بتصريح لسيف الإسلام القذافي خلال فبراير/شباط 2011 بقوله «ساركوزي يشن الحرب علينا لكي يخفي دلائل تمويلنا للانتخابات الرئاسية التي أوصلته إلى الرئاسة» في إشارة إلى انتخابات 2007. واعتبرت وسائل الإعلام تلك التصريحات صبيانية، وردّ فعل على تورط فرنسا في الإطاحة بنظام معمر القذافي. وأخذت جريدة «مديابار» المشعل وبدأت في التحقيق، وقدّمت معطيات خلقت المفاجأة في فرنسا، فما كان من قضاء مسؤول يقوم على حماية البلاد من الفساد سوى بدء التحقيق، وهو التحقيق الذي دام سنوات إلى غاية بداية الأسبوع الماضي، عندما صدر قرار قضاة التحقيق ويقول «ارتباط ساركوزي بعصابة إجرامية» وذلك في طريقة الحصول على المال الليبي، لتمويل الحملة الانتخابية، وإخفاء ذلك على مصلحة الضرائب ومخالفة القوانين. لا يمكن تفسير قرار باريس شن الحرب ضد نظام معمر القذافي، بإخفاء جريمة تمويل النظام الليبي للانتخابات الفرنسية، بل  توجد عوامل أخرى قوية واستراتيجية، وهي مصالح فرنسا في القارة الافريقية، خاصة ما يعرف بافريقيا الفرنكفونية، لاسيما بعدما فكّر الرئيس الليبي في إصدار عملة افريقية ضمن حلمه بافريقيا موحدة. وكانت باريس تدرك استهداف القذافي لافريقيا الفرنكفونية الفقيرة، وليس افريقيا الأنكلوسكسونية المرتبطة ببريطانيا، في إطار الكومنولث التي تشهد انتعاشا، فكان التحرك العسكري السريع باستغلال الربيع العربي.

من خلال هذا التطور، توجيه الاتهام رسميا إلى ساركوزي بتمويل حملته الانتخابية من أموال خارجية، وفي هذه الحالة، الليبية، نقف عند خلاصتين، وهما:
*في المقام الأول، وصول رئيس دولة ديمقراطية الى الرئاسة بأموال غير شرعية، مصدرها نظام غير ديمقراطي، النظام الليبي المعادي تاريخيا للغرب. وأخلاقيا، تعد انتخابات ناقصة. ومن باب الإنصاف، الظاهرة لا تقتصر فقط على ساركوزي بل هناك شبهات حول كل من الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان، والراحل جاك شيراك، بينما هناك شبهات لمؤسسات دولية لما يسمى «الإستبلشمنت المالي الدولي» بالوقوف بطريقة أو أخرى وراء تمويل جزء من حملة إيمانويل ماكرون. ولا توجد شبهات قوية حول الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران، والسابق فرانسوا أولاند، لأن غالبية رؤساء مستعمرات فرنسا السابقين لا يحبذون رئيسا اشتراكيا.
*في المقام الثاني، اعتاد السياسيون تقديم حكايات في مذكراتهم، تبرزهم آية في الشفافية ومثالا في الإخلاص الوطني وخدمة الصالح العام. وعادة ما يوجد اختلاف حول مذكرات سياسيين مازالوا على قيد الحياة، خاصة أن ظاهرة المذكرات الشخصية لرؤساء الدول والحكومات والوزراء، بل وقادة الجيش ظاهرة منتشرة في الغرب وليس في باقي العالم، خاصة في العالم العربي. وهي ظاهرة إيجابية، لأنها تساعد المؤرخ والإعلامي والسياسي على فهم قضايا كثيرة. ويحدث، في الغالب، أن تثير جدلا واختلافا، ويمكن بسهولة، سواء بالاعتماد على شهود أو وثائق المقارنة والاستقصاء، معرفة مصداقية المعطيات. وإذا تعلق الأمر بمذكرات مسؤول عربي، لاسيما إذا كان في السلطة، فيستحسن عدم قراءتها. وقد قدم ساركوزي في مذكراته «زمن العواصف» تقييما لزعماء شمال افريقيا وقادة آخرين، ثم كشف عن وقائع كثيرة، ولكنه لم يقدم شيئا جوهريا، ولم يكشف عن حقائق رئيسية وهي: كيف حصل على المال من القذافي لتمويل الحملة الانتخابية، التي أوصلته الى رئاسة بلد عريق في الديمقراطية مثل فرنسا. لقد اكتفى بصورة غير واقعية عن القذافي، الغريب الأطوار، الذي نجح في محاولة زعزعة النفوذ الفرنسي في افريقيا، بل أفسد من الناحية المالية، سياسيا بلغ الى الرئاسة بفضل أموال طرابلس.
في غضون ذلك، كانت الصحافة الحرة والمستقلة قد قامت بدورها، فقد ألف صحافيان من  جريدة «ميديابار» هما فابريس أرفي وكارل لاسك كتابا سنة 2017 بعنوان «مع تهاني القائد» يكشف بدقة، وبعد ست سنوات من التحقيق، تمويل القذافي لحملة ساركوزي الرئاسية. والآن، سيتكلف القضاء الفرنسي بتصحيح مذكرات ساركوزي، وسيضيف إليها فصلا مهما للغاية، وربما الأبرز في مسيرة هذا السياسي: القذافي موّل الحملة الانتخابية، أي بفضل أموال حاكم كان يصنف بالديكتاتور وصل سياسي الى رئاسة بلد ديمقراطي. وقبل القضاء، إنها مفارقات الزمن العجيب.

Sign In

Reset Your Password