الربيع “الخدعة” والتوجس من الربيع الحق ودور اللاعبين الكبار في العالم الإسلامي..؟

كاتب و سياسي


الأحداث التي تعرفها البلاد العربية ومصر بالذات خلال هذه الأسابيع حركت الشارع العربي أكثر مما حركته أحداث أخرى في غيرها من البلاد العربية، وقفزت مع هذه الحركة أسماء وأعلام كان لها دور ما أو دور بارز في أحداث عرفتها أرض الكنانة و (أم الدنيا) قبل هذا الزمان بعقود، بل أن بعض المنظرين استحضروا بعض الأسماء وأعلاما كان لهم دور ما في تاريخ مضى بهدف البحث عمن يمثل نفس الدور، وإذا كانت الهيئات والأحزاب والجماعات تعرف التدافع والتزاحم بين بعض العناصر فيها فإن النظام الذي يراد إعادته بكل تجلياته مع فارق طبعا لأن شتان بين حركة 1952 وأحداث 1954 وحركة 2013 وإحداث هذه السنة وان كان يجمع بينهما شهرا يونيو ويوليوز من السنوات الماضية والحالية، فهؤلاء المفتون استحضروا اسم الشيخ (أحمد حسن الباقوري) وغيره من الأسماء لعلهم يجدون من بين هذه الأسماء المتداولة اليوم من يمثل نفس الدور وقد وجدوا في الأزهر وبعض شيوخه وفي قمته من يقبل بدور ما، ولكنه مع الأسف دور يزري بالمؤسسة أكثر مما يرفع بها، وكما أسس نظام 1952 منظمة المؤتمر الإسلامي لتجاوز دور الأزهر ومحاولة إيجاد بديل للحركة الإسلامية الكبرى وتولى سكرتارية المؤتمر احد أعضاء قيادة الثورة (محمد أنور السادات) وإذا كان هذا المؤتمر الإسلامي رغم كل ما أغدق عليه وصرف من أجله لم يستطع أن يحل محل “الحركة الإسلامية” نعم تمكن من استقطاب البعض ونشر بعض الكتب والنشرات إلا أنه آل في نهاية المطاف إلى الزوال.

أما الآن فإن ما سيفصح عنه الواقع في هذا الصدد لا يزال مجهولا، لأن الأزهر لن يكون مطواعا باستمرار نظرا لوجود عناصر كثيرة بين شيوخه وعلمائه لا تقبل بدور الكومبارس الذي يؤثت المشهد ولا يكون فاعلا فيه.

وكما تبرز أسماء في هذا السياق تبرز كذلك أسماء أخرى في مجال التضحيات والصمود مثل الشهيد (عبد القادر عودة) وغيره ممن قدموا تضحيات وذهبوا وقودا لشهوات وأطماع الحاكمين ومن جاء بعدهم مثل الشهيد (سيد قطب) الذي لا تزال ذكرى استشهاده تظلل الواقع والمشهد العربي والإسلامي هذه الأيام. وللتذكير فإن “سيد قطب” كان عنصرا فاعلا في التحضير للثورة وكان الضباط بمن فيهم عبدا لناصر يجتمعون معه قبل الثورة وبعد الثورة ولكن السلطة لها حسابات أخرى.

ان الخلافات السياسية وتباين وجهات النظر بين الناس أمر واقع ومشروع ولكن يجب أن يكون التعبير عن ذلك بصدق وشرف، وإما الاندفاع مع نوازع التشهير أو التشفي فليس لهما مكان في مجال الاختلاف والتنوع وإنما المجال مفتوح أمام القبول بالتعددية وبالرأي والرأي الآخر بصدق ونزاهة.

وإذا كانت الأيادي الأجنبية تعبث باستمرار وبقدر ما تستطيع وعندما تجد المجال فإن اللاعب الأكبر اليوم في أحداث العالم العربي والعالم الإسلامي هو الاستعمار القديم والجديد لمصلحته لا لمصلحة هذا الشعب أو ذاك أو هذه الحركة أو تلك وقد أدرك الشهيد قطب هذا منذ زمن بعيد وذلك عندما كتب مقاله الشهير إسلام أمريكاني والذي رأيت من المناسب التذكير به في هذه الظروف العصيبة في العالم الإسلامي والتي تتشابه أحداثها.

وكل يرمي الآخر بالعمالة والتعبئة والواقع يشهد للناس وعلى الناس والمستقبل كشاف.

 

*******

سنة التدافع والبقاء

        التداول الحضاري سنة كونية يلحظها الناس جميعا على اختلاف مستوياتهم الفكرية وإدراكهم لتطور الأحداث وصيرورة الأشياء، يستوي في ذلك العالم المتبحر وذووا العلم والخبرة المحدودين، ولعل الحكمة المتداولة بين الناس (دوام الحال من المحال) تعبر عن عمق هذا الإدراك الإنساني العام، وكذا القصص والحكايات التي يرويها الناس بعضهم لبعض عن أحوال الناس في المجتمعات، وكيف كان هذا بسيطا ثم أصبح في حال آخر والآخر كيف كان غنيا وذا جاه وأين هو الآن، ويتحدثون عن آخرين الذين كانوا على هامش المجتمع ثم بين عشية وضحاها ابتسم لهم الحظ وأصبحوا في شان آخر، ولكن الشيء الوحيد الذي يبقى للناس ومع الناس ومن الناس هو مدى اقترابهم أو بعدهم عن الخلق والفضيلة، ومدى انغماسهم في حماة السقوط الأخلاقي وإهدار القيم التي يتعامل الناس على أساسها.

مراقبة المجتمع

        وإذا كان واقع الناس على هذا المستوى في المجتمع فإن الناس ينظرون إلى من بيدهم الأمور كيف يصرفونها؟ وكيف يتعاملون مع الناس؟ وهل استطاعوا أن يكونوا عادلين منصفين؟ أو انجرفوا مع الأهواء والمطامع وبطرتهم السلطة وأخذوا منها الجانب السلبي جانب الطاغوت والطغيان؟

عدل أو طغيان

 إن الحكم والسلطة مثلها مثل الغنى والفقر هي خاضعة لسنة التداول من باب أولى وأحرى، ومن هنا يأتي تقويم الناس لهؤلاء الحكام، هل كانوا في سيرهم عادلين ساعين لجعل الأمر بين الناس في مستوى يرضونه ويحمدونه، أو إنما هم في غي من أمرهم يظلمون ويسفكون الدماء من غير أن يكون لهم رادع من ضمير، أو وازع من خلق أو بصيص من إيمان بعدالة السماء التي تتحقق في كثير من الأحوال في هذه الأرض قبل أن ينتقل الناس إلى حيث العدل المطلق يوم الدين يوم يقوم الناس لرب العالمين.

سجل لا يرحم

        ولاشك أن التاريخ الذي استطاع الناس أن يدونوا من خلاله وفي صفحاته معاناتهم ومآسيهم، تعاستهم وشقاءهم، قبل أفراحهم وهناءهم ورخاءهم، فكل من استطاع أن يقلب صفحات التاريخ التاريخ العام أو التاريخ الخاص يرى كيف عبر الناس وكيف دونوا ذلك بصدق وإخلاص، ولا يهم أن يكون التعبير مما يرضي أو يغضب، أو أن يكون صريحا أو ملمحا، ولكن الناس يستطيعون من خلال خطوط ورسوم في حجرة صماء في فمه من جيل أو في جدار معبدا وفي نحت ينحتونه في لحظة أدركهم فيها حيف أو مسهم فيها ضيم، أو شعروا فيها بعدل تحقق، أو إنصاف انجز، وهكذا دواليك فهو سجل إحصاء لا يرحم.

أدوات التعبير

 ولذلك كانت النقوش والزخاريف والتماثيل والرسوم والخطوط وحتى الأدوات في المعابد والقصور وفي الكهوف كلها تنبئ عما كان وكيف كان، وما عرفه الناس على يد هذا الحاكم أو ذاك، وعندما تطور الناس وأصبحوا يدونون لغة وكتابة ويؤلفون الكتب لتدوين الحياة ومالها وما عليها فإن عبارات هذه الكتب توضح للناس حقيقة ما جرى وكيف جرى بأسلوب مناسب فهي تصف المرحلة بالرخاء والعدل والاستقامة أو بغير ذلك مما ينافي ما ذكر من شدة وجور وقحط وأمراض ووباء، وعلاقة كل ذلك بالحاكمين وأساليب مكرهم.

        وتجد في غالب الأحيان بعد ذكر ما جرى عبارة ولله في خلقه شؤون أو عبارة والله أعلم، وذلك حسب كل مؤلف والموضوع الذي يعالجه.

التطور في التعبير

        وبعد تطور وسائل التعبير فإنهم يجدون في قصائد الشعراء الفصيحة أو الزجلية أو غيرها مما يعبر عن حالات شعورية ونفسية معينة ولكنها في بعض الأحيان تكون أفضل وسيلة يستكشف منها ويخرج ما عليه أوضاع الناس في مرحلة معينة ويضاف إلى ذلك القصة والرواية أو غيرها مما أحدث الآن، إن هذا ما يدعم ما يذهبون إليه من حيث الوصف أو التدقيق وأما غير هذا من الوثائق رسائل ومكاتبات رسمية ومنشورات وخطب للمسؤولين والأمراء وغيرهم فكل ذلك محط استنتاج وتحليل.

الإصرار على النكوص

        وعلى أي حال فنحن لسنا هنا بصدد البحث أو الاستقصاء وإنما كان يقال الحديث ذو شجون فنحن أمام حدث معين دفعنا إلى محاولة استرجاع للتذكير والذكرى وما ذلك إلا لأننا نعيش أحداثا يكاد يصدق عليها عكس المقولة التاريخية المعروفة “التاريخ لا يعيد نفسه”، ولكن ما ذنب الناس وما ذنب التاريخ إذا كان البعض يصر على أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ويصر على أن يجعل التاريخ يتجاهل عقودا من الزمان بأهوالها ومآسيها، بأحزانها وأفراحها، وبشقائها وآلامها، وذلك بالسعي ليعيش الناس ذلك كله مرة أخرى. خدمة لطمع أو هوى.

من أجل الظالم والمنتفع

        لقد عاش الناس الستين عاما الماضية معيشة ضنكا في الأرزاق والمعايش وتعذيبا وسجونا وآلاما مع فقدان الحرية ومعاقبة الأحرار في كل مكان حتى إذا ظن الناس أن هناك بصيصا من النور نور الحرية فإذا عقارب الساعة تنقلب جريا إلى الوراء، وإذا كان هذا يجري الحديث به همسا أو ضمنا في دنيانا وذلك من خلال تزكيته لما يجري في بعض البلدان العربية، فإن الأمر في مصر أفصح من ذلك هكذا، ونجد من بين الناس من يقول مرحبا بالعودة إلى بداية مرحلة القمع والانتقال إلى الاستبداد المطلق كما بدأ يعود، لم لا نعيد تجربة 1954م.

الربيع الموهوم

وكان هو لا يقولون وهم يقولون بالفعل ومالنا وشيء اسمع الحرية التي تقلق الحاكم ولا تريح الظالم والمنتفع من ظلمه في جميع الأحوال، فهذا الربيع ربيع يريده الناس أن يكون ربيعا حقا، وهم في ذلك واهمون، فالربيع الذي يزهر وينعش هو أمر ليس واردا الآن فوقته لم يحن بعد، فكيف يجئ والناس الذين يعيشون البحبوحة في عز الصقيع هم الذين لا يزالون يتحكمون، وهكذا استيقظ الحالمون وهم يتقلبون في كوابيس ما كانوا يظنون أنها هي التي ستتولد من الحلم الوردي الذي يتغذى من صور الربيع الموعود.

والثورة المخدومة

والواقع أن الناس في واقعهم الحقيقي فوجئوا بما صور لهم الغير انه (ربيع) فصدقوه، فكان هذا الغير هو الذي حضر وهيأ الربيع الوهمي ليجهض ثورة الربيع الحقيقي حتى لا تحصل وتعطي ما يرحبوه الناس المسحوقون وما يريدون، إنهم يطاردون الربيع حتى لا يزهر أزهاره الحقيقية فيعطي الديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة.

الواقع يفضح

        وإذا كان العمل العام والعمل السياسي ينظر إليهما من خلال النتائج وما يفرزانه في حياة الناس وواقعهم الذي يعيشونه، فإن هذا الواقع لم يكن على المستوى الذي كان مؤملا ومرغوبا، لاشك أن هناك أسبابا وعوامل لعبت في هذا الذي يجري والذي سيجري في بقية الدول (الربيعية) أو نصف (الربيعية) أو التي لا تزال تلهث وتعمل حتى لا يصيبها ما أصاب غيرها، ومن أجل إبعاد هذا الشبح المخيف شبح زوال السلطة ونعيمها.

السعي لإفساد اللعبة

 ولا تتورع هذه الحكومات والأنظمة التي تخاف وتتوجسس من الربيع في ارتكاب كل صعب وذلول لإفساد اللعبة، وإظهار المساوئ التي جاءت مع ما اعتبر (ربيعا)، وما هو الربيع. ولذلك قامت وتقوم بشيطنة الواقع الذي جاء على اثر هبة الشعوب واندفاعها لنيل الحرية وإزالة الاستبداد، ولكن الشعوب لم تتمكن من اقتلاع جذور الاستبداد من أسسها، وهو ما أتاح للاعبين فرصة اللعب وفي مستوى أكبر من هؤلاء الذين انتخبهم الناس ظنا منهم أن أصواتهم واختياراتهم للناس أو التيارات التي يمثلونها ستفضي بالأمور إلى ما يؤملون وإذا بالناخبين والمنتخبين يقعون في فخ وهم الديمقراطية ولعبة الصناديق.

الخصوم الأصليون والوكلاء

 وظنوا أنهم مرحب بها ومقبولون عند الخصوم سواء الخصوم الأصليين وهم الأهم، أو الخصوم بالوكالة، والخصوم الأصليون للشعوب وثوراتها التحررية في البلاد العربية والإسلام هم الاستعمار بكل تلويناته وأشكاله، ويأتي في مقدمة وطليعة الخصوم الأصليين في الوقت الحاضر أمريكا وسياستها في حماية الصهيونية العالمية التي ترى فيها أداة لخدمة مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية، ولا بأس أن تتحالف الصهيونية المسيحية مع الصهيونية اليهودية ضد الشعوب العربية الإسلامية فكل منهما له مصلحته الخاصة ولكن الذي لا يفهم هو كيف يجعل بعض الناس وبعض الحكام أنفسهم في ركاب خدمة هذه السياسة وتبنيها بكل أبعادها وأضرارها على الشعوب التي تحكمها والتي من المفترض ان تدافع عنها وعن مصالحها.

آليات تتحرك

        لقد رأينا اليوم وفي الأسابيع والشهور الأخيرة كيف تتحرك الآليات التي تخدم المصالح الاستعمارية وكيف تحرك الأدوات التي تخدم مصالحها في المنطقة عن وعي وعن غير وعي. وليس الأمر جديدا في هذا الصدد فهو أمر قديم، وقد كانت تسعى دائما إلى خلق العملاء داخل الهيآت والمنظمات والدول، ولكنها تعجز عن ذلك عندما تواجه أناسا مشبعي بالروح الوطنية، ولهم ضمير يعب من عقيدة وإيمان.

استرجاع

 ويحدثنا التاريخ عن نماذج من هؤلاء، وقد حاول البعض قديما وفي هذه الأيام التي كثر فيها صُعار الإعلام الزائف أن يوهم أن شخصية مجاهدة وشهيدة وشاهدة مثل (سيد قطب) قد تقع أوقعت في هذا الفخ، وهو أمر ليس جديدا بل مما حاول بعض أعدائه والذين حاولوا أن يجدوا لخصومه يوم كانت مؤلفاته وإنتاجه والحديث عنه يعاقب عليه في بلده مصر ولكن لم يجدوا لذلك سببا وطريقا فهذا (عادل حمودة) في كتابه الذي نشره مسلسلا في بعض وسائل الإعلام (روز اليوسف) في مصر بعنوان: (سيد قطب من القرية إلى المشنقة تحقيق ووثائق) نبش في هذا الموضوع ووصل إلى الآتي:

اعتراف ونتيجة

لا أحد –حتى السيد قطب نفسه- أشار إلى هذه الألغاز التي صاحبت البعثة.. الأمر الذي جعل البعض يشير إلى أنها كانت «وليدة تخطيط أمريكي خفي».. وإن «كان سيد قطب بعيدا عنها».. أي أن اختياره –دون أن يدري- كان جزاءا من الرهان الأمريكي، على بعض الوجوه، قدر لها –إذا استجابت- أن تلعب بعض الأدوار.. وقفزا على الأحداث والوقائع، نؤكد أن سيد قطب عاد من أمريكا ساخطا عليها، ومهاجما حضارتها.. بل أكثر عداء لها مما كان عليه قبل السفر.. وإن لم ينف هذا أنه هاجم –بنفس القدر- الشيوعية، والشيوعيين أيضا!

محاولة إغراء

فيما بعد.. اعترف سيد قطب لرفيقه في السجن «سيد سالم»: «أنه وقع تحت إغراء الأوساط الأمريكية، بكل الوسائل، ولكنه لم يسقط في شباك أي منها»، ولم يحدد سيد قطب طبيعة هذا الإغراء.. ولا مداه.. وكان أن فضل الذين وقفوا إلى جواره، تفسير «الإغراء» تفسيرا جنسيا لا سياسيا.. دللوا عليه بأحداث عديدة بدأت على سطع السفينة التي حملته إلى «نيويورك».. حيث صدمته امرأة ذهبت الخمر بعقلها، وهي نصف عارية، فراودته عن نفسه.. لكنه استعاذ بالله، وقهر الشيطان، وأغلق الباب في وجه الفتنة.. ولابد انه راح –في نفسه-  يلعنها».

هذا ما كتبه عادل حمودة وهو وان حاول اللمز وحاول الإيحاء ولكن الواقع صدمه وكذب نفسه بنفسه وينقل الكاتب بعض فقرات ما كتبه سيد قطب وهو في أمريكا وبالأخص في وصف المنتفعين من النظام آنذاك والذي يصدق على كل الوصوليين الانتفاعيين قال قطب:

«لو أن كل هذه الجموع من الموظفين وغير الموظفين التي لا تملك صهرا إلى وزير أو كبير ولا تملك الوسائل الأخرى التي لا يرضاها الرجل الشريف والتي تقفز بأصحابها فوق الأمناء الشرفاء، أقول لو أن هذه الجموع كانت لها كفايات حقيقية لما سكتت على هذا الفساد ولما تركت هذه الوسائل الملتوية تعمل عملها في داخل الدواوين وخارجها..

إن الذي يسكت على حقه –خوفا من غضب وزير أو رئيس- ويدع “الكلاب” تقفز فوق رأسه بالاستثناء أو بأية وسيلة أخرى تنقصه أهم أنواع «الكفايات» وهي تلك الشجاعة الأدبية.

لو أن كل صاحب حق من هؤلاء اسمع الوزير أو الكبير صوت غضبه لتخطيه لما جرؤ وزيرا أو كبير على أن يمضي في طريقه إلى حد التبجح أحيانا بالمحسوبيات والاستثناءات.

لست أنكر ان كثيرا من هؤلاء الموظفين الأمناء الشرفاء المتواضعين الذين تقفز على رءوسهم الكلاب يضطلعون بأعباء عائلية ويخشون نقمة الوزير والرئيس ويخافون على لقمة الخبز أن تؤخذ من أفواه أطفالهم ومن يعولون من آباء وأمهات وأقرباء ذلك حق ولكنه لا يبرر السكوت.

ماذا يملك الوزير الذي يرقى مائة في وزارته بالاستثناء لو أن مئات الموظفين الآخرين أسمعوه صوت غضبهم على تصرفه المعيب؟ إنه لا يملك أن يرقيهم جميعا بالاستثناء، ولا يملك كذلك أن يطردهم جميعا من وزارته، ولكنه يملك أن يتعلم أن هؤلاء الموظفين في وزاراته ليسوا «عبيدا» في ضيعته، أعني أنه يملك أن يكون أكثر «أدبا» ولو انه وزير». (ص:80)

إســـــــــلام أمـريــكــانـــــــــــــي

  وبعد فإن النتيجة التي استخلصها سيد قطب من تجربته وعلاقته بالواقع الذي كان ولا يزال هو ما كتبه في مقال له بعنوان إسلام أمريكاني مع ملاحظة أن المقال كتب إبان الحرب الباردة ومقاومة المد الشيوعي إذ كتبه عام 1951 والذي جاء فيه:

«الأمريكان وحلفاؤهم مهتمون بالإسلام في هذه الأيام، إنهم في حاجة إليه ليكافح لهم الشيوعية في الشرق الأوسط، بعد ما ظلوا هم يكافحون تسعة قرون أو تزيد، منذ أيام الحروب الصليبية! إنهم في حاجة إليه، كحاجتهم إلى الألمان واليابان والطليان، الذين حطموهم في الحرب الماضية، ثم يحاولون اليوم بكل الوسائل أن يقيموهم على أقدامهم، كي يقفوا لهم في وجه الغول الشيوعي. وقد يعودون غدا لتحطيمهم مرة أخرى إذا استطاعوا!

لا يريدون حكم الإسلام

والإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط، ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية! إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، ولا يطيقون من الإسلام أن يحكم ، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء فكلاهما عدو، وكلاهما اعتداء!

الأمريكان وحلفاؤهم إذن، يريدون للشرق الأوسط إسلاما أمريكانيا.ومن ثم تنطلق موجة إسلام في كل مكان. فالكلام عن الإسلام ينطلق في صحافة مصر هنا وهناك. والمناقشات الدينية تغرق صفحات بأكملها ، وفي صحف لم يعرف عنها في يوم ما حب الإسلام ولا معرفة الإسلام. ودور النشر – ومنها ما هو أمريكاني معروف – تكتشف فجأة أن الإسلام يجب أن يكون موضوع كتبها الشهرية. وكتاب معروفون ذوو ماض معروف في الدعاية للحلفاء، يعودون إلى الكتابة عن الإسلام، بعدما اهتموا بهذا الإسلام في أيام الحرب الماضية، ثم سكتوا عنه بعد انتصار الحلفاء! والمحترفون من رجال الدين يصبح لهم هيل وهيلمان، وجاه وسلطان، والمسابقات عن الإسلام والشيوعية تخصص لها المكافآت الضخام.

إسلام التحرير مرفوض

أما الإسلام الذي يكافح الاستعمار – كما يكافح الشيوعية – فلا يجد أحدا يتحدث عنه من هؤلاء جميعا. وأما الإسلام الذي يحكم الحياة ويصرفها، فلا يشير إليه أحد من هؤلاء جميعا.

إن الإسلام يجوز أن يستفتى في منع الحمل، ويجوز أن يستفتى في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يستفتى في نواقض الوضوء. ولكنه لا يستفتى أبدا في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي. ولا يستفتى أبدا في أوضاعنا السياسية والقومية، وفيما يربطنا بالاستعمار من صلات.

والديمقراطية في الإسلام، والبر في الإسلام، والعدل في الإسلام. من الجائز أن يتناولها كتاب أو مقال. ولكن الحكم بالإسلام، والتشريع بالإسلام، والانتصار للإسلام… لا يجوز أن يمسها قلم ولا حديث ولا استفتاء!

الزكاة

وبعد، فقد حدث أن الإسلام الأمريكاني، قد عرف أن في الإسلام شيئا يقال له “الزكاة”. وعرف أن هذه الزكاة قد تقاوم التيار الشيوعي لو أخذ بها في الشرق من جديد. ومن هنا اهتمت “حلقة الدراسات الاجتماعية” التي عقدت في مصر في العام الماضي بدراسة حكاية “الزكاة” هذه، أو بدراسة مسألة “التكافل الاجتماعي في الإسلام”.

ولما كانت أمريكا من وراء حلقة الدراسات الاجتماعية، فإن ذوي الشأن في مصر لم يروا أن يقفوا في وجه حكاية الزكاة، كما وقفوا في وجهها يوم فكر فيها “عبد الحميد عبد الحق” وهو وزير للشؤون الاجتماعية! إن ذوي الشأن يستطيعون الوقوف في وجه الزكاة يوم يكون الآمر بها هو الله. أما يوم يكون الآمرون هم الأمريكان، فليس أمامهم إلا الخضوع والإذعان.

وعلى ذلك ألفت في مصر لجنة من بعض أساتذة الشريعة في الجامعة، وبعض رجال الأزهر، وبعض الباشوات، لدراسة مسألة “التكافل الاجتماعي في الإسلام” وبخاصة حكاية الزكاة، لا لوجه الله، ولا لحساب الوطن، ولكن لوجه الأمريكان، ولحساب حلقة الدراسات الاجتماعية.

التكافل الاجتماعي

وهنا بدا وجه الخطر. إن الأمريكان لو عرفوا حقيقة التكافل الاجتماعي في الإسلام لفرضوه فرضا عل الشرق الأوسط، لأنهم لن يجدوا سدا أقوى منه في وجه الشيوعية. والتكافل الاجتماعي في الإسلام يفرض على الأموال تكاليف، ويفرض عليها حقوقا، ويعترف للملايين بحق الحياة، ودون هذا وتتقطع الأعناق.

وإذن فلا مفر من تخبئة الأمر على الأمريكان! ولا مفر من الاحتيال على النصوص، ولا مفر من تخفيف الأعباء التي يفرضها الإسلام على الأموال، ولا مفر من أن تخرج اللجنة من الزكاة نفسها بظل باهت لا يتناول إلا التافه، ولا يمس الأموال إلا بقفاز من حرير.

أمر الأمريكان

إنه لو كان الأمر أمر الله والدين لهان، ولكنه أمر الأمريكان إن ما تقرره الشريعة الإسلامية شيء، وما تقرره حلقة الدراسات الاجتماعية شيء آخر! إن حلقة الدراسات الاجتماعية لا يجوز أن تعرف سر الإسلام الذي لا تعرفه، وإلا فرضته على أهل الإسلام.

ولكن بعض أعضاء اللجنة من المعاندين المكابرين الذين لا يعرفون كيف يكتمون النصوص، ولا يعرفون كيف يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولا يعرفون كيف يشترون بآيات الله ثمنا قليلا.

هؤلاء الأعضاء ما يزالون متشبثين بأن يطلعوا الأمريكان على السر الخطير، وما يزال الأعضاء الآخرون يلاقون من تشبثهم عنتا، ولا يدري إلا الله كيف تسير الأمور!

إنها مهزلة بل إنها لمأساة… ولكن العزاء عنها أن للإسلام أولياءه، أولياءه الذين يعملون له وحده ويواجهون به الاستعمار والطغيان والشيوعية سواء، أولياءه الذين يعرفون أن الإسلام يجب أن يحكم كي يؤتي ثماره كاملة. أولياءه الذين لا تخدعهم صداقة الصليبيين المدخولة للإسلام، وقد كانوا حربا عليه تسعمائة عام.

إن أولياء الإسلام لا يطلبون باسمه برا وإحسانا، ولكن يطلبون باسمه عدالة اجتماعية شاملة كاملة، ولا يجعلون منه أداة لخدمة الاستعمار، والطغيان. ولكن يريدون به عدلا وعزة وكرامة، ولا يتخذون منه ستارا للدعاية، ولكن يتخذونه درعا للكفاح في سبيل الحق والاستعلاء.

الاسترزاق

أما دور العلن الذي يعلن بالإسلام في هذه الأيام ، وأما المتجرون بالدين في ربوع الشرق الأوسط ، أما الذين يسترزقون من اللعب به على طريقة الحواة ، أما هؤلاء جميعا فهم الزبد الذي يذهب جفاء عندما يأخذ المد طريقه، وسيأخذ المد طريقه سريعا، أسرع مما يظن الكثيرون ، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا .”وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم. وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. يعبدونني لا يشركون بي شيئا”. صــــــــــــدق اللـــه العـــــــظــــــــــــيــــــــــــم.

ولا تزال الحالة هي الحالة مع بعض التفاصيل في الجزئيات ولله في خلقه شؤون.

*أستاذ الفكر الإسلامي

مستشار برلماني

Sign In

Reset Your Password