“الانتحار الفرنسي” لإريك زمور “كتاب السنة”، يرصد تراجع فرنسا ويتحول نفسه الى علامة لهذا الانهيار لسطحية فكره

جزء من غلاف الكتاب

“الانتحار الفرنسي” عنوان كتاب مثير للانتباه ولا يقل إثارة للجدل السياسي والاجتماعي الذي يخلفه مؤلفه إيريك زمور صاحب الأطروحات الجريئة الى مستوى غياب اللياقة اتجاه قضايا تمس في العمق بالهوية الفرنسية والبحث عن كبش الفداء الذين عادة ما يكون المهاجر القادم من العالم الثالث والمتمثل في المسلم المغاربي.  والكتاب رغم توظيفه للتاريخ الفرنسي والعالمي ومحاولة الاقتراب من الطرح الأكاديمي لا يتجاوز أطروحات الإيطالية ماريا فلاتشي دون الاقتراب من عمق أطروحات الأمريكي صامويل هانتنغتون.

والكتاب نزل الى المكتبات الفرنسية خلال شهر أكتوبر الماضي، وتجاوز 250 ألف  نسخة حتى الآن وهو رقم قياسي لكتاب سياسي بحكم أن الأرقام القياسية للمبيعات تحطمها الروايات التي تشذ انتباه الجمهور من مختلف الفئات العمرية والثقافية بدون استثناء.

والعنوان المتشائم والسلبي والمثير للانتباه “الانتحار الفرنسي”، أي تبني فرنسا سياسة ستؤدي الى انهيارها،  يبرز علامة دالة هو قلق بعض المفكرين حول مستقبل وطنهم في ظل التحولات الاستراتيجية التي يعيشها العالم في الوقت الراهن، وهؤلاء قد يصيبوا في التشخيص وتقديم المقترحات الهادفة لتجاوز العراقيل وقد يفشلوا ويقدمون وصفات قائمة على الشعبوية خاصة في البحث عن “كبش الفداء”. وهذا القلق هو ما يوقع عليه الكاتب في التقديم بقوله:

“فرنسا هي الرجل المريض لأوروبا. الاقتصاديون يقيمون فقدان التنافسية، المحللون يتحدثون عن سقوطها. الدبلوماسيون والجنود يشتكون في صمت حول تراجعها الاستراتيجي. الأطباء النفسيون قلقون من ارتفاع التشاؤم. خبراء استطلاعات الرأي يقيسون معدلات اليأس. الشباب الفرنسي يهاجر. الأجانب الأكثر تشبعا بالفرنكفونية قلقون من تدهور مستوى التعليم فيها…¨

وليرسم لوحة أكثر سوداوية للواقع الفرنسي الحالي، لم يتردد إريك زمور في تقديم شرح وتأويل خاص لشعارات الثورة الفرنسية التي تعتبر الانطلاقة الحقيقية نحو بناء فرنسا الحديثة معتمدا على منهجية المقارنة التاريخية بين الأمس واليوم لتقديم أمثلة ضمن استراتيجية إقناع الكاتب. ويكتب في هذا الصدد: “لم يعد الفرنسيون يتعرفون على فرنسا، الحرية أصبحت هي تفسخ القيم، والمساواة أضحت تعادل المساواة التمييزية المبالغ فيها، والإخاء تحول الى حرب الكل ضد الكل…وصارت فرنسا بمثابة ذلك البناء التاريخي الجميل لكنها من الداخل تنهار”. SuicideFRançais

وينتقد تخلي الفاعلين من مختلف المجالات عن وظائفهم والمهام المناطة بهم، مؤكدا أن الرئيس لم يعد رئيسا والسياسي لا أحد يسمع له ووسائل الاعلام لا أحد ينتبه لها، وتبقى النتيجة وفق إريك زمور، أن “الجمهورية الفرنسية غير القابلة للتجزئة والتي تضمن التعدد أصبحت مقسمة بشكل لم تشهد البلاد من قبل”. ومن خلال الحديث عن التقسيم يوحي بالفوضى التي قد تعيشها البلاد مستقبلا. وفي فصول أخرى، يكتب ويوجه نقذا قويا للطبقة السياسية ويكتب “فرنسا تعيش في أجواء البهرجة، ساركوزي تحول الى بونابرت كرنفالي، وفرانسوا هولند الى ميتران كرنفالي”.

ويحضر التاريخ بقوة في كتاب “الانتحار الفرنسي”، فالتاريخ هو مخزن التجارب والذاكرة، وبالتالي أحسن وسيلة للحجج والإقناع. في هذا الصدد، يوظف أريك زمور بدهاء، أكثر منه ذكاء المثقف والأكاديمي، المقارنة التاريخية بين حدثين هامين في تاريخ البلاد، الثورة الفرنسية سنة 1789 وثورة ماي 1968 ليقنع القارئ كيف نجحت ثورة 1789 في ميلاد فرنسا جديدة قوية من خلال فوز الشعب على الأرستقراطية وفوز الدولة على النظام الفيودالي وسمو القانون على المشرعين وفوز الوطن على الملوك.

ويعتبر فرنسا الحالية ضحية ثورة مايو 1968 التي أنتجت نخبة غير واعية بدور فرنسا التاريخي ومكانتها بين الأمم وتبنت المنهج التفكيكي لقيم الجمهورية اعتقادا منها بصواب هذا الطرح السياسي والثقافي والاجتماعي.  وينطلق الكتاب من سنة 1970 للوقوف على أبرز تطورات وأحداث كل سنة لتحليلها مع تحميل نخبة مايو 68 المسؤولية التاريخية لما آلت إليها الأوضاع الراهنة. وهذه الأطروحة دشنها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي سنة 2007 الذي رغب في تنفيذ هذه الأفكار، أي مواجهة إرث مايو68 ال مستوى الانقلاب، وانتهى به الأمر خاسرا في الانتخابات الرئاسية في مواجهة فرانسوا هولند سنة2011.

ومثل الكثير من المفكرين الذين ينهلون من طبق واحد خاصة بتوظيف الملفات الاجتماعية الشائكة مثل الهجرة ولاسيما تلك القادمة من ثقافات وديانات مختلفة، يصوب إريك زمور سهامه الفكرية نحو الهجرة وخاصة من العالم العربي-الإسلامي. يرفض النموذج الأنجلوسكسوني ويطالب بمنظور قومي الى مستوى “شوفيني” قائم على ضرورة الانصهار الكلي للمهاجر في المجتمع الفرنسي. ويسمي الباحثون هذه الأطروحة بالاستيلاب الثقافي والهوياتي. وهنا يلتقي إريك زمور مع أطروحات الجبهة الوطنية المتطرفة بزعامة ماري لوبين التي تدافع عن الطرح نفسه.

الكتاب يتجنب مهاجمة الإسلام مباشرة كديانة، ويركز على مهاجمة المتطرفين وغير المندمجين من المسلمين في المجتمع الفرنسي. لكنه في آخر المطاف يسقط في فخ عدم التفريق بين المسلم المعتنق لديانة روحية ومن يدعي الإسلام ويوظفه في القتل والإرهاب كما حدث ويحدث مع تجارب تاريخية متعددة حول توظيف المسيحية واليهودية من طرف فئات حاكمة في تبرير جرائم بشعة مثل الاستعمار أو القول باختيار الله لهذا الشعب على حساب الآخرين. ويكتب أن “ضواحي مدن فرنسا قد شهدت أسلمة كاملة أو في الطريق الى ذلك”، حيث “تسود الأعراف الإسلامية على حساب قوانين فرنسا”. ويبني أطروحته حول خطر الإسلام من الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها فرنسا خلال أكتوبر ونوفمبر من سنة 2005، حيث انتفض عشرات الآلاف من المغاربيين، وينتهي الى نتيجة إرسال فرنسا، جانبها المسلم، لمئات المقاتلين نحو سوريا والعراق.

وحول هذه النقطة، وفي حوار أجرته معه الجريدة الإيطالية كورييري دي لسييرا مؤخرا، حمّل المسلمين مسؤولية ما يجري في فرنسا بسبب تقاليدهم، ولم يتردد في التلميح الى ضرورة تهجيرهم وطردهم، مقتبسا من التاريخ الكثير من الأمثلة مثلما حدث مع  الجزائريين الموالين لباريس الذين طردوا بعد استقلال هذا البلد المغاربي. تصريح يثير زوبعة في فرنسا الآن.

الكتاب ينهل كثيرا من الأطروحات القومية التي تنادي بها الحركات القومية المتطرفة وذات التوجه العنصري (التي يطلق عليها اليمين المتطرف) رغم أنه يكتب في جريدة نظريا معتدلة وإن كانت محافظة وهي لوفيغارو، بل ويساهم في رسم خطها التحريري، الأمر الذي يفسر بعض مواقفها المتطرفة مؤخرا. ويتشبث بسيادة فرنسا التي فرطت فيها لحساب التجمعات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي ويكتب أن فرنسا فقدت سيادتها سنة 1992 لصالح الاتحاد الأوروبي.  ولتقديم أمثلة حول ينتقد بقوة رهان النخبة الفرنسية على المشروع الأوروبي، ويقول أن 50% من رأسمال بورصة فرنسا في أيادي أجنبية. والكتاب هنا يلتقي مجددا بشكل غير مباشر مع أطروحة الجبهة الوطنية التي ترفع سلاح “الانسحاب من الاتحاد الأوروبي” في برامجها السياسية.

كتاب “الانتحار الفرنسي” هو محاولة لتقليد للكتاب الأمريكي “من نحن” للأكاديمي الشهير صامويل هانغتنغتون صاحب “صدام الحضارات”. وحاول هانغتنغتون في  “من نحن” الصادر قبل وفاته بقليل التنبيه والتحذير الى فقدان الولايات المتحدة الأمريكية مستقبلا لمكانتها وقوتها كزعيمة للعالم الحر بسبب فقدان تلك القيم التي قامت عليها تاريخيا، ويشرح هذا في فصله الثالث حول تحديات الهوية الأمريكية.

لكن إريك زمور القادم من عالم الصحافة يفتقد للعمق الأكاديمي في كتابه، وهذا ما يجعل كتابه يسقط فكريا في “ردود الفعل”، وينتج مواقف سياسية سطحية وشعبوية. وبالتالي بدل أن ينتج كتابا على شاكلة “من نحن” لهانتنغتون قدم كتابا على شاكلة كتب الإيطالية أوريانا فلاتشي مثل “قوة المنطق: أوروعربية” التي تتهم اليسار الأوروبي بتشجيع تحويل أوروبا الى فضاء للإسلاميين على حساب القيم الغربية، ودشنت فلاشياني مدرسة السطحية السياسية  “والأدب السياسي الرخيص” في أوروبا.

وعمليا، تعاني فرنسا من أزمة في رؤيتها المستقبلية بسبب صعوبة التكيف مع التطورات في وقت تصعد فيه دول جديدة، ولعل من علامات هذا الانهيار كتاب “الانتحار الفرنسي” الذي يرصد واقعا مرا، ولكن بآليات وتصورات هزيلة فكريا.

وتبقى المفارقة الكبرى أن إريك زمور ومضمون كتابه من علامات انهيار دولة بونبارت وفيكتور هيجو وفولتير  وشارل ديغول.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password