الأوبئة والسكان: الحصيلة والأفاق البحثية/ باتريس بوردولي

من وباء الأنفلونزا الإسبانية

في كتابه الرائد، الذي نشر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أشار فيليب آريس Ariès إلى أنه خلال قرنين من الزمن حدثت واحدة من أهم الثورات في تاريخ البشرية: تراجع نسبة الوفيات والحد الطوعي في عدد الولادات.

سوف نهتم هنا بالجزء الأول فقط. من بين الآفات الثلاث التي كانت تخشاها المجتمعات القديمة، الجوع والحرب والطاعون، والتي غالبا ما كان يسند بعضها بعضا في نفس الفترة، اختفت اثنتان من البلدان المتقدمة. وقد أدى هذا الوعي، ومعها المناهج الحديثة التي أفرزتها مدرسة الحوليات، والحماس المتزايد لدراسة تاريخ السكان والديموغرافيا التاريخية، إلى تجديد كامل للمعرفة و طرح الإشكاليات بشأن الروابط بين الأوبئة والسكان على مدى العقود الخمسة الماضية. إن محاولة تقييم المعرفة المتراكمة تتطلب كتابًا كاملًا.

ولذلك سنحاول في هذه الدراسة التركيز على ثلاثة أبعاد مختلفة في هذا المجال. في البداية سنتحدث عن التحولات في الرؤية التي حدثت عند مؤرخي هذا الموضوع : الأوبئة درست لأول مرة كعوامل تفسيرية لأزمات الوفيات ، ثم دُرست لذاتها لمعرفة منطق انتشارها وتحديد خصائصها الوبائية والديموغرافية ثم عواقبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

وأخيرا، تضاعفت المحاولات لفهم النظم المعقدة للكائنات الحية الدقيقة وعلاقاتها المتبادلة مع المجتمعات البشرية. ويتعلق الجزء الثاني بالبحوث المتعلقة بفترة الانخفاض الكبيرة في معدل الوفيات، التي هي أساسا نتيجة لاختفاء أكثر الأوبئة خطورة وإثارة للخوف والحد التدريجي من آثار تلك التي لا تزال موجودة. وقد نشرت الكثير من الأبحاث بشأن هذه الجوانب؛ بل إنها أدت إلى اقتراح مفهوم جديد هو التحول الوبائي، الذي تستحق أهميته وجدواه بعض التأمل.

وأخيرا، فإن الجزء الأخير مكرس لاتجاهات البحث الحديثة والتطورات المحتملة في هذا المجال. كما أنه يساعد على وضع المقالات المنشورة في حوليات الديموغرافيا التاريخية في سياقات البحوث الحالية.

الأوبئة من الظرفي إلى البنيوي

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تطورت الأبحاث بشأن الروابط بين الأوبئة والسكان بفضل الباحثين الذين شرعوا، في سياق مدرسة الحوليات l’école des Annales ، في مغامرة الفهم الشامل للتاريخ وهو ما يعني الجمع بين الجوانب البيولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

فمن ناحية، هناك من يستندون إلى تشكيل سجلات الأسعار والإنتاج والولادات والزواج والدفن لتسليط الضوء على نموذج النظام السياسي القديم وقد بدأوا ينشرون نتائج أبحاثهم من أواخر الأربعينات إلى الستينات من القرن العشرين، ومن ناحية أخرى، هناك من يميل إلى دراسة تاريخ السكان، على الرغم من تجديد بعض أدواته ولكنها دراسات ظلت تقليدية في أساليبها ومصادرها، وهي مهتمة أيضا بالأوبئة الرئيسية بصفتها من عوامل التأثير في التركيبة السكانية .

أما الأوائل وهم السائرون على خطى إرنست لابروس Ernest Labrousse فهم يسلطون الضوء على واحدة من الظواهر الرئيسية للمجتمعات القديمة، التي تسمى أزمة النظام القديم la crise d’Ancien Régime ”

يرتفع عدد الوفيات فجأة لعدة أشهر ، ويمكن أن يتضاعف بخمس وفي بعض الأحيان بعشر مرات مقارنة بالسنوات العادية. وللمرة الأولى ، وتسلط المنحنيات الرياضية الضوءَ على تكرار الظاهرة كل ثلاثين عامًا بالنسبة لتنامي الوفيات و كل خمسة عشر عامًا إذا أخذنا في الاعتبار الأزمات المتوسطة ، وبالتالي ، فالمسألة هي تقديم تفسير لمثل هذه الانتظامات الزمانية وتوضيح كيف تمكن السكان من الحفاظ على أعدادهم ، وأحيانًا زيادة عددهم على الرغم من الضربات المتكررة للموت. أما الفرضيات المتعلقة بتفسير هذه الوفيات فهي موضوع اختلاف بين المؤرخين.

هناك من ينسبون هذه الأبراج“clochers de la courbe المذهلة لمنحنيات الموت إلى النظام الاقتصادي والاجتماعي ، إلى ارتفاع تكلفة الحبوب التي تؤدي إلى المجاعة ، وهم يعارضون أولئك الذين التفسير بوباء الطاعون المعروف جيدًا والعديد من الأوبئة الأخرى ، والتي تكون آثارها مميتة أكثر لأنها تؤثر على السكان الذين يعانون أصلا من سوء التغذية أونقص التغذية وقد تحدثت بعض شهادات الأرشيف عن الدمار والخوف الشديد الذي كانت تثيره تلك الأوبئة بين الناس.

وقد أدت هذه الأسئلة ، التي لا تزال قيد المناقشة حتى اليوم ، إلى عدة محاولات لتقييم آثار الجوع والمرض ونقص التغذية على مختلف الأمراض والأوبئة. إن تحسين التحليلات يجعل من الممكن الآن تفكيك الأمراض وفقًا لما إذا كانت حساسة للنظام الغذائي أم لا. إن التيفوئيد ، والطاعون ، والكزاز ، والجدري ، والحمى الصفراء ، والملاريا لا تتأثر إلا قليلاً بنوعية التغذية عند الأفراد ، على عكس من السل والالتهابات الرئوية والجذام والسعال الديكي ، والحصبة والكوليرا والإسهال . وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأمراض الأخيرة ، عند السكان القدماء ، كانت مسؤولة عن نسبة عالية من الوفيات ، بحيث يتم تسليط الضوء على العلاقة الشاملة بين النظام الغذائي والوفيات الوبائية. وقد لوحظت أوجه تشابه جغرافية معينة بين المناطق المتأثرة بأزمات غذائية طويلة وشدة أوبئة الكوليرا ، على سبيل المثال.

خلال الوباء الذي ضرب فرنسا في عام 1854، في الأقاليم الأكثر تضررا مثل الهوت مارن la Haute-Marne والأرييج l’Ariège ، زاد عدد الوفيات سبعة أضعاف لمدة أربعة أشهر. كما أن هاذين الإقليمين عانا كثيراً في السنوات الثلاث السابقة من محاصيل ضعيفة جداً، ولا سيما نتيجة لمرض البطاطس la maladie de la pomme de terre ، ولذلك فمن الممكن التفكير في وجود الوباء وسوء التغذية في نفس الوقت.

وقد انعكس الاهتمام بمظاهر الأوبئة وعواقبها العالمية على مجتمعات الماضي في نشر مجموعة من البحوث الجديدة التي صممت وأجريت في إطار النموذج اللابروسي labroussien و اتجاهات البحث التي يفضلها فرناند براوديل Fernand Braudel.

أولاً هناك كتاب إليزابيث كاربنتيي‘Elisabeth Carpentier الذي يحلل آثار وصول الطاعون الأسود، ثم عواقبه على المدى المتوسط في مدينة أورفيتو Orvieto التوسكانية ( 1962أ). وفي العام نفسه، نُشرت إحدى مقالاتها عن آثار المجاعات على الأوبئة في القرن الرابع عشر، وحاولت فيها دمج تاريخ الأوبئة في التاريخ الاقتصادي (كاربنتييه 1962ب). وقد تجلى اهتمام إليزابيث كاربنتييه بتاريخ سكان القرن التاسع عشر في نفس الوقت بنشر مقال جديد (كاربنتييه وغلينيسون، 1962.(

في نفس المجموعة، التي تشرف عليها المدرسة التطبيقية للدراسات العليا EPHE في القسم السادس نشر الباحث بارتولومي بناصر في عام 1969 بحثه عن الأوبئة الرئيسية في شمال إسبانيا (بناصر، 1969). وفي العام نفسه، خُصص عدد خاص من مجلة حوليات Annales E.S.C ـالتابعة لجامعة ستراسبورغ لموضوع التاريخ البيولوجي والمجتمع“. وعلى وجه الخصوص، هناك ثلاث مقالات هامة جدا لموضوعنا اليوم ومنها ذلك الذي كتبه جاك لو غوف وجان نويل بيرابين عن موضوع آفات العصور الوسطى الأولى، حيث يحاول المؤلفان تتبع طرق وصول الوباء ومنطقه في الانتشار (بيرابين ولو غوف، 1969(

كما يقدم إيمانويل لو روي لادوري Emmanuel Le Roy Ladurie أحد التفسيرات المحتملة للسقوط المذهل للتصورات خلال الأزمات الديموغرافية لفترة النظام القديم: )انقطاع المجاعة (1969. وأخيراً، فإن المقال الذي قدمه ميركو غريميك، والذي يستند إلى الفكرة الحديثة آنذاك للتعدد البيولوجي والتفاعلات البيولوجية بين الكائنات الحية ، قام بصياغة نظرية الباثو سينوز والتي تعتمد على فكرة تأثر الأمراض التي تصيب كائنا حيا ما بتلك التي تصيب الجماعة التي ينتمي إليها أو يتفاعل معها.

ويتجلى هنا الاهتمام الدائم بالفصل بين مختلف المستويات البروسية (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) وزمنيّات بروديل. في تصور هؤلاء المؤرخين ، فإن الهياكل الاقتصادية ونوعية المناخ على المدى الطويل ، والظواهر البيولوجية تأثر على تاريخ الإنسان ربما أكثر من أفعال الناس الإرادية (1967). كما أن البنيات التجارية الدولية، والزيادة في حجم المبادلات بين عالمي البحر الأبيض المتوسط وتأسيس المحطات التجارية الإيطالية في البحر الأسود، على سبيل المثال، هي المسؤولة عن استيراد وباء الطاعون. وعن حجم الجائحة .

وعلاوة على ذلك، فإن نظام الإنتاج، بأبعاده التقنية والاجتماعية، غير قادر على إطعام السكان الإيطاليين الذين كانوا يتزايدون آنذاك وخاصة في المدن، بحيث ازداد حجم الحبوب المستوردة من شرق البحر المتوسط (ومع الحبوب يأتي الجرذان الين ينشرون الطاعون!). أما بالنسبة لعنف الوباء، فهو نتيجة لسوء الحالة الصحية للمدن ونظريات الطبية العاجزة عن تفسير منطق انتشار الوباء. ناهيك عن العلاجات التي كانت بالطبع غير فعالة.

في هذا المنطق لإعادة بناء تماسك المؤرخين، تهتم إليزابيث كاربنتييه اهتمامًا بالغا بالأحداث السياسية التي ينتجها الوباء وعواقبه الاقتصادية والاجتماعية على المدى القصير والمتوسط. أما بيرابين ولو غوف فهما يوسعان المقاربة الجغرافية والزمنية : إنها مسألة استعادة وفهم طرق أوبئة الطاعون خلال العصور الوسطى الأولى ، والتساؤل عن أسباب اختفائه في القرن الثامن، وهو ما يصعب تفسيره أكثر من سبب عودته في القرن 19.

في هذه الدراسة ، يسعى الجزء الأول إلى تزويد المؤرخين بالأدوات والمعرفة الوبائية اللازمة لإجراء تحليل ذي صلة لهذه الظاهرة الوبائية. كما يتطلب الانفتاح على البيولوجية إجراء حوار جديد مع الأطباء المتخصصين في مجال الأوبئة.

وتختتم دراسة الثنائي جان نويل بيرابين وميركو غريميك بهذه الفقرة : “الأوبئة لها أهمية قصوى كظواهر جماهيرية. تؤثر على الاقتصاد، وعلى الحركات الديموغرافية وعلى المنظومة الأخلاقيةكما يقدم غريميك للمؤرخين أحدث الاكتشافات في مجال علم المناعة ، التي يمكن أن تفسر تراجع الوباء.

كما أنه يؤكد على التعارض بين الأمراض المختلفة ، ويقترح مفهوم الداء الجماعي (جميع الحالات المرضية داخل مجموعة معينة من السكان) ، ويقترح برنامجا من الأبحاث حول ديناميكيات الداء الجماعي وفترات التوازن والتراجع، وكأنه يريد دراسة التاريخ الذي يحدث دون إرادة البشر ، أو تقريبا، ويستكشف عواقبه على حياة المجتمعات البشرية. أما بالنسبة لمقال إيمانويل لو روي لادوري، فهو يتفحص التجارب التاريخية الأخيرة للمجاعات في المدن الأوروبية في حالة حرب في القرن العشرين والفهم الطبي الجديد لخصوبة النساء ليقترح فرضية تفسيرية لتراجع حالات الحمل خلال أزمات النظام السياسي القديم قبل الثورة الفرنسية حُكم الملكيات الفرنسية دون اللجوء إلى فرضية تحديد النسل المتسرع “. ومرة أخرى، يتعلق الأمر بتحديد المقاييس الدقيقة للعوامل البيولوجية الخارجة عن سيطرة الإنسان.

ثم يركز المؤرخون على دراسة منطق الوباء. في منتصف السبعينيات، أكمل جان نويل بيرابين، وهو طبيب وديموغرافي، الكتاب الرئيسي عن تاريخ الطاعون الذي بدأه في أواخر الخمسينيات: تم نشره في نفس السلسلة التي نشرت فيها جميع الأعمال السابقة وفيه يتناول مسار الأوبئة المتعاقبة وكذلك خصائص وفيات الطاعون ثم تحليل النظريات الطبية وتدابير الأطباء، وأخيرا تصورات وأحاسيس السكان والمبادرات الحكومية (Biraben1975-1976).

أصبحت فترات الوفيات الاستثنائية موضوع إنتاج معرفي تاريخي مع الاستعانة بالمعطيات الكمية. هذا البحث سمح بالتعرف على سبل انتشار الوباء والعوامل الناقلة له بين الناس والخصائص الذاتية المؤهّلة للإصابة به، ولكن العرض في مجال الرعاية الصحية والنظريات الطبية والتدابير التي يتخذها السياسيون وتصورات السكان هي الآن جزء من نفس برنامج العمل. أما فرانسوا لوبران فهو رائد تغيير مهم آخر: إدخال عناصر الأنثروبولوجيا التاريخية، وموقف الإنسان من المرض و من مشاهد الموت والفراق ، مرورا بالطقوس الدينية التي ترافق الوداع الأخير ى ) Lebrun ، 1971.(

ركزت هذه الفترة الأولى من الأبحاث على تحليل طرق العدوى، وعلى تحديد عوامل الانتشار (من خلال حوار أولي مع الأطباء)، وعلى ثقل الظروف الاقتصادية والاجتماعية في شدة الأوبئة والخصائص الديموغرافية للإصابات بالوباء والعواقب الديموغرافية العامة. ثم جاءت بعد ذلك دراسة تطور التجهيزات الطبية وطرق اشتغال الأطباء والمستشفيات، وبداية الاهتمام بالمزيد من المقاربات الأنثروبولوجية.

وخلال الفترة نفسها، بدأ أصحاب دراسة التاريخ السكاني التقليديون يهتمون أيضا بالأوبئة. في عام 1958، جمع لويس شوفالييه Louis Chevalier نتائج الأبحاث حول الكوليرا في العديد من المدن الفرنسية الكبرى وكانت مساهمته الشخصية في دراسة حالة باريس قد أهلته ليسير على خطى رواد الاهتمام بالوقاية منذ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وقد مزج بين المنهاج الاجتماعي والتحليل الديموغرافي . وقد كشف حسابه لمعدلات الوفيات في كل شارع في باريس عن أعلى معدل للوفيات الناجمة عن الكوليرا في أفقر الأحياء (شوفالييه 1958). ولكن عوامل أخرى من قبيل نسبة الوفاة بالكوليرا، وخصائصها، والمنطق الوبائي ظلت خارج نطاق أبحاثه.

وبعد بضع سنوات، برزت أهمية الأوبئة في تاريخ البشرية مع بعض السذاجة في بعض الأحيان، انطلاقا من المعرفة الجديدة لعلم المناعة وعلم الوراثة المتراكمة منذ الحرب العالمية الثانية (McNeill ، 1976). ونظرا للآثار الديموغرافية لغزو المكسيك من قبل الاسبان ، والذين كان عددهم ضئيلا نسبيا مقارنة مع السكان الأصليين ، استطاع ماك نيل أن يبرز الأهمية القصوى للأمراض المعدية في مجال التفسير التاريخي وهو يشرح مراراً عديدة لماذا وكيف يكون الإنسان أسير التوازن بين الطفيلية الدقيقة للكائنات الحاملة للأمراض والطفيلية الكبيرة للمفترسين الكبار، ومن بينهم الإنسان بالطبع“.

وقد حاول تفسير الاختلافات في القابلية للتعرض للعدوى أو المناعة ضدها العدوى بين الأفراد والتي تعكس التطورات التاريخية الرئيسية. على الرغم من أن المنطق هو في كثير من الأحيان موجه نحو النتيجة النهائية فالكتاب لديه ميزة لفت انتباه المؤرخين إلى جميع العناصر النظرية التي تسمح بالأخذ في الاعتبار ظهور وتطور واختفاء مختلف الأوبئة في حين أن مؤرخي السكان الآن منشغلون جدا بالتوازنات العالمية ، وآثار المنطق الوبائي على شدة الأمراض ومدى فتكها بالسكان.

انخفاض معدل الوفيات: التحول الوبائي أو الطبي؟

وقياسا على مفهوم التحول الديمغرافي، الذي يشير إلى الانتقال من نظام ديموغرافي قديم، يتسم بارتفاع مستوى الخصوبة ونسبة المواليد، إلى نظام حديثيكون فيه هذان المستويان منخفضين، اقتُرح مفهوم التحول الوبائي ( Omran 1971). المقتبس من النظرية المالتوسية حيث نسبة الوفيات هي العامل الرئيسي في الديناميكيات الديموغرافية، وهي تركز على التغيرات الرئيسية في أسباب الوفاة أثناء انخفاض معدل الوفيات: الأمراض وخاصة منها المعدية تشكل نسبة ضئيلة على نحو متزايد من مجموع الوفيات لصالح الأمراض التنكسية dégénératives أو التي تنتج عن أعمال بشرية (ولا سيما السرطانات وأمراض القلب والأوعية الدموية),

ويُعزى الانخفاض في معدل الوفيات إلى انخفاض تواتر وحجم أزمات الوفيات، وانخفاض وجود الأمراض المعدية وفتكها. ولكن ألا يتعارض مثال السكان الإنجليز مع مثل هذه النظرية (وريغلي وشولفيلد، Wrigley et Scholfield 1981)؟ لقد انخفض متوسط العمر المتوقع عند الولادة من 41 سنة، الذي لوحظ حوالي 1580، في القرنين السادس عشر والسابع عشر ولم يعد هذا الرقم مرة أخرى حتى نهاية القرن التاسع عشر، كما أن التسلسل الزمني لوفيات مدينة جنيف السويسرية ، القريبة من هذه الأرقام ، يدعونا أيضا إلى الابتعاد عن بساطة نموذج التطور الذي يؤدي إلى الانتقال من نسبة الوفيات المرتفعة إلى مستويات منخفضة خلال الفترات الانتقالية: القرن الخامس عشر والقرن التاسع عشر.

وتتعارض نتائج بحوث الثمانينات مع خطيّة linéarité مثل هذا النموذج، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وبصرف النظر عن فترات أوبئة الطاعون، كانت نسبة الوفيات في السنوات الهادئة منخفضةً جدًا (Perrenoud1989) ،.ومن ناحية أخرى، فإن وباء التيفوس ووباء والجدري في القرن الخامس عشر كانت لهما آثار سلبية على مجموع الوفيات أكثر من بضع سنوات من تفشي الأوبئة الأخرى . وهكذا كان تراجع أزمات الوفيات في إنجلترا في القرن السابع عشر مصحوبًا حتى عام 1680 بزيادة في الوفيات العامة.

ويمكن تفسير هذه التطورات المتباينة بالنسبة إلى وريغلي وسكوفيلد من خلال التغيرات في الظروف المناعية الطفيلية. ولا يمكن التقليل من شأن العودة إلى الحالة الديمغرافية الطبيعية للعالم عند نهاية القرن السادس عشر، ولا من الحجم الجديد للمبادلات التجارية، الذي لا جدوى من إثباته بعد أن أصبح بديهيا ،والتي تشكل كلها ظروفا مواتية لانتشار الأوبئة الجديدة و توطن الأمراض المعدية و في فرنسا، كان ارتفاع معدل الوفيات في الفترة 1709-1710 إيذانا بانتهاء الأزمات من النوع السابق ) لوبران Lebrun 1980 (.

وفقا لأبحاث جاك Dupâquier ، فالأزمات ذات الحجم الكبير اختفت بعد عام 1710 ، ولكن الأزمات المتوسطة أصبحت تستمر لفترة أطول (1979 Dupâquier) ، وعندما نلاحظ تراجع حدتها في مختلف بلدان أوروبا، لا يمكن الإشارة إلى وجود علاقة واضحة بين تغيراتها وانخفاض معدل الوفيات الإجمالي.

وبعبارة أخرى، وخلافا لنمط التحول الوبائي، يمكن إحراز تقدم كبير جدا دون اختفاء تواتر الأزمات وشدتها (Perrenoud, 1989).

كما تعرض مفهوم التحول الوبائي للانتقاد لأنه يبدو كأنه يعطي الأولوية للظواهر المناعية الطفيلية على حساب الإجراءات الاستباقية التي يتخذها الإنسان ، مثل اللجوء إلى سياسات الصرف الصحي والسياسات الصحية على العموم. وعلى وجه الخصوص، أبرزت دراسات ماكيون McKeown أهمية تحسين النظام الغذائي كسبب لانخفاض السل مع إنكار أي دور بارز لسياسات الصحة العمومية (McKeown 1976).

هذا العمل استند إلى المعطيات الديموغرافية في جميع أنحاء البلاد والأسباب الكبرى لإحصاءات الوفيات المتاحة لإنجلترا وبلاد الغال ابتداء من عام 1837، استطاع أن يتتبع تطور كل سبب رئيسي للوفاة على مدى ما يقرب من قرن ونصف وأن يجري تقييما للفارق الزمني بين انخفاضه وتاريخ استعمال التلقيح أو العلاج الطبي الفعال.

ويبين البحث أن دور الطب في انخفاض العديد من الأوبئة (السل والحصبة والحمى القرمزية، فضلا عن السعال الديكي والتهاب الشعب الهوائية والالتهاب الرئوي والأنفلونزا) حديث جدا ولا يمكن أن يكون عاملا تفسيريا في الانخفاض الذي تطور من القرن التاسع عشر إلى فترة ما بين الحربين، عندما ظهر ت أدوية السولفاميد sulfamidés . وبما أن الأمراض المنقولة بالمياه والأغذية هي وحدها التي يمكن السيطرة عليها من خلال سياسات النظافة الصحية والصحة العامة، ولا يبدو أنها في طليعة الأمراض التي أصبحت تتراجع فإن ماكيون اهتم بأمراض الجهاز التنفسي ، والتي يمكن تفسير انخفاضها فقط من خلال التحسن في مقاومة الأشخاص المصابين بالمرض. بعد أن رفض العديد من الفرضيات التفسيرية لهذه المقاومة احتفظ بواحدة منها وهي التحسن الكمي والنوعي للنظام الغذائي عند السكان منذ ببداية القرن التاسع عشر

وحقيقة أن التوازن الغذائي الأفضل هو السبب الرئيس لزيادة المقاومة لمختلف الأوبئة لا يمكن أن تصدم الحس السليم، بل إن البحث الأخير حاول التعرف على تأثير النظام الغذائي على معدل الإصابة المرتفعة بالمرض حسب نوعية الوباء (Lunn, 1989).

ومع ذلك، انتقد المؤرخون بشدة أساليب واستنتاجات ماكيون. وخاصة المكانة التي يمنحها إلى دور الحد من مرض السل في الانخفاض العام لمعدل الوفيات والطريقة التي يثبت بها ذلك.

إن اختيار النطاق الوطني، وعدم التمييز بين المناطق الريفية والحضرية، وعدم الأخذ في الاعتبار توزيع الوفيات حسب العمر، وبالتالي تأثير تطور كل سبب رئيسي من أسباب الوفاة على متوسط العمر المتوقع عند الولادة هي كلها تبسيطات أدت إلى حركة كبيرة جداً للبحث في خصائص التحول الوبائي والصحي في القرن التاسع عشر(Kearns, 1993).

يتعلق النقد الأول بالتشخيص الأولي: لن يكون انخفاض نسبة الوفيات هو العامل الأول في زيادة عدد السكان الإنجليز من 1541 إلى 1871. على العكس من ذلك، بين نهاية القرن السادس عشر والسنوات 1810-1820، ستكون الزيادة في الخصوبة أكبر مرتين ونصف من الانخفاض في معدل الوفيات (وريغلي وسكوفيلد 1981). ولكن مثل هذه الملاحظة لا تنطبق على جميع البلدان الأوروبية. بالإضافة إلى ذلك ، واجه ماكيون العديد من المشاكل المنهجية ، وخاصة تصنيف أسباب الوفاة. ولم تمثل الأسباب الرئيسية التي وضعها في صميم تحليله سوى ثلث الوفيات في الفترة 1851-1860 والسدس فقط في الفترة 1891-1900، مما يقلل من جديّة الاستنتاجات المقدمة.

والاستقرار الذي يُحتج به بعدم معالجة الأسباب الأخرى هو استقرار شمولي فقط؛ هو في الواقع نتيجة لتطورات معاكسة داخل الفئات المدروسة ! بالإضافة إلى ذلك ، لم يتم تمييز بين الحمى القرمزية والدفتيريا ، على سبيل المثال ، حتى عام 1855 . أما التيفوس و التيفوئيد ومعظم أنواع الحمى فقد كانت تصنف تقريبا في نفس الخانة.

من ناحية أخرى فإن تراجع الحمى الزيموتية أو الاختمارية كان نتيجة للتغيرات في البيئة والسلوكيات ، أصبح ذا أهمية مشابهة لأهمية تراجع أمراض الجهاز التنفسي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ندرة الوفيات الناجمة عن السل يصاحبها ارتفاع وتيرة الوفيات الناجمة عن أمراض الرئة، مما يشير إلى انتقال بسيط بين الفئات.

وتفضي حسابات جيري كيرنس Gerry Kearns إلى حذف سدس الانخفاض الواضح في مرض السل (كيرنس، 1988)، لقد أصبح واضحا أن التحول الأساسي في توزيع أسباب الوفاة خلال القرن التاسع عشر يتعلق أولاً بالأمراض المنقولة عبر الماء وليس عبر الهواء

ولذلك فإن توفير المياه النظيفة، والجهود البلدية للنظافة العامة، وتعديل السلوكيات الفردية (الأيدي النظيفة) عوامل لها دور حاسم مثلها مثل تحسين الأغذية،في مقاومة الأوبئة والأمراض المعدية .

حتى أن الباحث سيمون Szreter اقترح أن تُعكَس استنتاجات ماك كيون. إن انخفاض معدل الوفيات بالسل هو نتيجة لتحسن مقاومة الأجسام الحية، ولكن مصدره يكمن في المقام الأول في انخفاض الجدري وجميع أشكال الحمى المنهكة وليس في تحسين النظام الغذائي. (Szreter 1988). ثم استعادت الإرادة السياسية واليقظة الجماعية والفردية مكانتها الأولى في مكافحة الأوبئة فأصبح التحول الوبائي تحوّلا صحيّاً.

لقد تميز القرن التاسع عشر بتقدم جديد في التوحيد الميكروبي على الصعيد العالمي وأوبئة الكوليرا هي المظهر الرئيسي لذلك وبالتخفيف العام من حدة الأوبئة، من خلال مرور الأمراض معدية إلى أشكال أخرى مختلفة عما كانت عليه في القرون السابقة، في أوروبا التي انتعشت فيها الثورة الصناعية ودفعت السكان إلى العيش في تجمعات حضرية كبيرة.

ومن الواضح أن وتيرة الأوبئة ليست حتمية في كل القرون . إن التوازن الوبائي الذي حدث حول الطاعون من القرن الرابع إلى القرن الخامس قد خضع لإعادة التطوير من نهاية القرن السادس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر: أصبح الطاعون يزور بشكل غير منتظم وكأنه يفسح المجال للأمراض الأخرى مثل التيفوس والجدري.

بدأ التراجع في حدة الأوبئة في القرن التاسع عشر واستمر في القرن العشرين. وعلى الرغم من الأوبئة الناشئة مثل الكوليرا والسل والزهري، فإن عدد الضحايا بدأ يتناقص؛ وهناك أرقام تسمح بقياس التناقضات. في القرن السادس عشر، في فرنسا، قتل الجدري سبعة ملايين شخص والطاعون بين مليونين ونصف وثلاثة ملايين من رعايا لويس الرابع عشر البالغ عددهم عشرين مليون نسمة (،Perrenoud 1980). وفي القرن التاسع عشر، أودت أوبئة الكوليرا المتعاقبة بحياة أقل من 000 500 شخص، من ضمن ساكنة انتقل حجمها من 31 مليون نسمة إلى 35 مليون نسمة، ولكن بحلول عام 1900، بدأ مرض السل يودي بحياة 000 90 شخص سنويا ( Mouret, 1996).

وفي فرنسا، لم تناقش فرضيات ماك كيون إلا قليلاً بسبب الافتقار إلى معطيات موثوقة عن أسباب الوفيات . واتخذت الدراسات السكانية في القرن التاسع عشر مسارات أخرى. وبالنظر إلى الهواجس الفرنسية، فإن المواضيع الرئيسية للدراسة التي استأثرت بالاهتمام كانت تحديد النسل، ثم النمو الحضري وآليات الهجرة القروية ( 1993 Bourdelais). ومعظم الأبحاث المتعلقة بالأوبئة لم ينجزها المؤرخون العاديون، وقد سلطت أدبيات الجدري الضوء على عدم كفاية المصادر الكمية، لدرجة أنه من الصعب جداً في فرنسا في القرن التاسع عشر إعادة توصيف وحساب معدلات تغطية السكان باللقاح ضد الجدري على مدى القرن.

ولكن في حين أن الأبحاث الديموغرافية محدودة ومخيبة للآمال، فإن مقاربات علم النفس التاريخي حول التلقيح مثيرة للاهتمام ، وفي مجال الأوبئة، كان البحث الأكثر اهتماماً مباشراً بشأن القضايا السكانية وعلم الأوبئة التاريخي يتعلق بالكوليرا استنادا إلى العديد من المعطيات الكمية لكل الأقاليم الفرنسية وهذا البحث، الذي أجري في منتصف السبعينيات ، تتبع بدقة طرق انتقال العدوى وشدة الوباء، وتوزيع الوفيات حسب السن والجنس والخلفية الاجتماعية – المهنية.

كما اختبر الباحثون العديد من الفرضيات الوبائية، المستوحاة من حوارهم مع المتخصصين في معهد باستور، من خلال بناء مختبر افتراضي انطلاقا من الأرشيفات المتاحة فاستطاعوا البرهنة على الانتقال المباشر بين الأفراد المصابين وعلى الدور المحدود للأفراد الأصحاء في عملية الانتقال كما طرحوا بحذر بعض الأسئلة المفيدة حول فرضية القابلية الجينية الوراثية للإصابة بالكوليرا عند البعض.

ولكن النظريات الطبية، التي تعكس تدابير الصحة العامة المعتمدة والعلاجات المقترحة، تشكل جزءا هاما من البحث ، فضلا عن تطور التدابير التي اتخذتها السلطات وردود فعل السكان.

وقد أتاح لهم توسيع آفاق المؤرخين ، منذ عام 1988، أن يبادروا إلى جمع المساهمات بشأن الأوبئة الرئيسية في القرن التاسع عشر (الكوليرا والزهري والسل)، مما يوضح إلى أي مدى ازدهرت دراسة الأوبئة، حتى عندما لا تكون المقاربات ديمغرافية فقط(Bardet, Bourdelais et al. , 1988). وهذا التطور لاشك أنه كان راجعاً أيضاً إلى الوضع الوبائي الجديد وغير المتوقع في البلدان المتقدمة؟

التوحهات البحثية الحالية

منذ أواخر السبعينات، بدا أن الأوبئة في البلدان المتقدمة تنتمي إلى ماض غابر لن يعود ، هذا الشعور المشترك على نطاق واسع يؤدي إلى راحة البال التي تفضل بالتأكيد المنهاج الذي لا يهتم بالمخاطر الحقيقية للعدوى وضرورة السياسات الاستباقية في مجال الصحة العمومية مث أبحاث فوكو و إيليش (Foucault, 1975 ; Illich, 1975).

وفي مثل هذه السماء الهادئة، من السهل بالتالي أن نفهم الصدمة الثقافية التي حصلت في أوائل الثمانينات مع تفشي التهديد المذهل للإيدز وبعض الجراثيم التي أصبحت مقاومة للترسانة الموجودة من الأدوية في أوروبا والولايات المتحدة. ويبدو أن استبيان البحوث التاريخية في مجال الأمراض والطب أعيد تصميمه بعمق. وفي ظل هذه الظروف، يبدو لي أن هناك ثلاثة مشاريع تتصل مباشرة بالتاريخ الديمغرافي وتستحق التعمق البحثي : تحديث الدراسات المتعلقة بالنظم الوبائية، ودراسة بناء المعارف الوبائية و استخدامها من طرف المؤرخ ، وأخيرا مكان التدخلات السياسية أو الجماعية في مكافحة الموت.

لا يزال مؤرخو السكان يعتمدون على الأقل ضمنيا، على الرصيد المعرفي الذي طوّره ماك كيون McKeown وماك نيل McNeill. ويكفي إعادة قراءة هذه الأعمال لنرى كيف أن المعرفة البكتريولوجية والوبائية والوراثية التي تستند إليها قد تم إثراؤها إلى حد كبير على مدى ربع القرن الماضي. يجب إنجاز جهد تجميعي حقيقي يتضمن جميع الاكتشافات الطبية الحديثة. والوعي بهذا الشرط مشترك على نطاق واسع، استنادا إلى المبادرات المتعاقبة منذ النصف الثاني من الثمانينات.

وفي عام 1988، جمعت حلقة دراسية نظمها آلان بيدو Alain Bideau مائة أخصائي دولي في مؤسسة ميريو Fondation Mérieux ، حول موضوع الطب وانخفاض معدل الوفيات“. ونشرت المساهمات من طرف حوليات الديموغرافيا التاريخية (1989) وعلى شكل كتاب جماعي The Décliné of Mortality in Europe (1991) . وتوج مؤتمر دولي آخر عقد في مؤسسة مريو بنشر عدد خاص من مجلة تاريخ وفلسفة علوم الحياة” (1993) عن الأمراض الناشئة، وهي فكرة تعكس ضرورة إعادة قراءة الماضي من أجل فهم الحاضر المؤلم أحيانا والخلاصة هي أنه يجب أن نبحث عن منطق الأنظمة المسببة للأمراض على المدى الطويل، في ضوء المعارف الحديثة .

يحتاج مجتمعنا اليوم إلى إعادة تطوير وإعادة بناء الماضي الوبائي في ضوء حقائق الحاضر وتمشيا مع احتياجات اليوم. هكذا يتساءل ميركو غريميك عن مفهوم المرض الناشئ” (Grmek, 1993). كما أن ألفريد Perrenoud يحاول التفكير كديموغرافي حول ما يؤسس التنظيم الوبائي لفترة ما من التاريخ ، وعلى ضوء التغيرات التي حدثت منذ القرن السادس عشر ، يبدو من الصعب جدًا تفسير انخفاض معدل الوفيات القدرة على إبداء بعض الملاحظات حول تطور الأسباب المختلفة للوفاة.

على إثر الملاحظات التي برزت من أبحاث ألفريد بيرينود Alfred Perrenoud ، من الضروري تحليل أسباب تراجع نسبة الوفيات التي ظهرت في نهاية القرن السابع عشر بعد قرن ونصف من الارتفاع منذ حوالي عام 1550.

هذا التحول محتمل ولكن يجب القطع مع فكرة انسيابية التاريخ العام لنسبة الوفيات! أليس من الممكن أن نتصور أنه بعد الانخفاض الديمغرافي الهائل في سنوات 1400 و1450، بسبب الأوبئة المتكررة والحرب، وصل عدد السكان مرة أخرى بعد قرن من الزمان، إلى الكثافة التي تنتشر معها الأوبئة لا سيما منذ تلك الفترة هل تميزت بزيادة التبادلات الوطنية والدولية واستئناف تحركات الجنود؟

ولكن صعوبات تحليل أمراض الماضي عديدة لأنه عندما توجد المصادر، فإن التغيرات المتتالية في أنسابنا تجعلها غير صالحة للاستخدام تقريبا. هنا، يمكن للمؤرخ الديمغرافي تعزيز التشخيص السابق وإعادة تشكيل التكافؤ بين علم تصنيف الأمراض الماضي والحالي باستخدام تقنياته لتحليل نسبة الوفيات. وقد قدم ألفريد بيرينود نموذجا لهذا النوع من الأبحاث: بفضل تسجيل الوفيات في جنيف من طرف طبيب جراح ومحلف من 1580 إلى 1830، تمكن من تمهيد الطريق لتحليل توزيع الأمراض في التجمعات البشرية

إن تحليل التداخل بين توصيفات أسباب الوفاة ، وعمر المتوفى ، وفترة الوفاة والأسباب المتزامنة بين الأسباب المختلفة ، على سبيل المثال ، أظهرت أن الهزال الناجم عن مرض الرئة والهزال لأسباب أخرى على العموم ربما يعني نفس المرض ، لكن مع ذلك ، لا ينبغي الخلط بين الجدري والتشنجات والحمى النزفية ، حتى لو كان هذان الأخيران من عواقب الجذري وتشير بداية استغلال هذا المصدر الاستثنائي إلى مدى الاكتشافات المحتملة بالمقارنة مع الخصائص الدقيقة للوفيات واختلافاتها.

ولكن وجود سجلات لأسباب الوفاة ليس أمرا مشاعا في أوروبا. ففي مقابل السجلات الجيدة في إيطاليا والسويد وانجلترا وهي مبكرة ومحفوظة جيدا، نجد أن السجلات الفرنسية أو الإسبانية متأخرة و متوسطة الدقة والضبط .

على سبيل المثال. ويقدم هذا الحجم من حوليات الديموغرافيا التاريخية عدة مساهمات، استنادا إلى تسجيلات أسباب الوفاة حين تكون موجودة ، وهو ما يحسن فهمنا للظواهر الوبائية.

وعن مسألة فعالية اللقاح الجينري ودوره في تراجع مرض الجدري خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، يبرز بيتر سكولد Peter Skôld عناصر جديدة للنقاش، وذلك بفضل جودة المصادر السويدية وجودة عمله حول تاريخ الأوبئة (Skold, 1996).

مرة أخرى ، و بفضل نوعية التصريحات بالوفاة و أسبابها ، ولكن هذه المرة في ميلانو ، حيث من الممكن تحديد هوية المتوفى ، وبالتالي سنه وعنوانا، رفض أوليفييه فارون Olivier Faron الاستنتاج السريع جدا الذي يزعم أن الأحياء الحضرية ذات الكثافة السكانية المرتفعة هي التي يكثر فيها وباء الكوليرا. وعلى نطاق أكثر تفصيلاً، درس الباحثان سكارليت بوفاليت, Scarlett Beauvalet وبيار بوتويري Pierre Boutouyrie العلاقات المتناقضة على ما يبدو بين تغيرات الممارسات الطبية وتواتر حمى ما بعد الولادة. ينبغي مواصلة هذه الجهود، استنادا إلى معرفتنا التاريخية الحالية بالتطور السكاني والافتراضات الحديثة بشأن الآليات المناعية والوراثية، من أجل اقتراح نظرية جديدة تاريخية الوحيدة التي لها قيمة علمية عن العلاقة بين الإنسان والكائنات الحية الدقيقة.

أما الورش الثاني فيعنى بدراسة تكوين المعرفة الوبائية، لأن طرق التفكير في الماضي، وقواعد إدارة الأدلة السارية في كل حقبة لا تخلو من تأثيرات على عمل المؤرخين. ومسألة الآثار الصحية لإمدادات مياه الشرب مسألة مثالية في هذا الصدد.

على مدى عقود، كان هناك ميل لإلقاء اللوم على سوء نوعية المياه التي يستهلكها سكان المدن: فالدراسات الاستقصائية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تذهب جميعها في هذا الاتجاه. وتبين البحوث أنه مع تطور التحول الوبائي والصحي، توقف انخفاض معدلات الوفيات الإجمالية في القرن التاسع عشر.

بل إنها بدأت تميل إلى التراجع في معظم البلدان الأوروبية بحلول منتصف القرن، قبل أن تبدأ في انحدار جديد ثم أصبحت منحدره بشكل أكثر حدة منذ بداية القرن العشرين و ارتبط هذا الأداء الضعيف في منتصف القرن بحركة التحضر بعد أن تفاقمت في القرن التاسع عشر. كانت الأبحاث الإنجليزية غنيةً جدًا في هذا المجالKearns, 1993)). ويظل السؤال الأول الذي يتعين الإجابة عليه هو تفسير الزيادة في معدل الوفيات في المناطق الحضرية.

كيف تحدث العودة إلى الوراء ؟ ما هي الأعمار المشمولة ؟ متى تتطور؟ في فرنسا ، استنادا إلى بعض الدراسات التي شملت المدن الصناعية،يبدو حجم ذلك التفاقم أمرا لا يكاد يُصدق : متوسط العمر المتوقع عند الولادة يمكن أن ينخفض بعشر سنوات في غضون فترة 15 عاما ، على سبيل المثال في إقليم كروزوت

Creusot

وتوضح دراسة الوفيات حسب العمر أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سنة وعشر سنوات هم الذين يرون زيادة في معدل وفياتهم إلى حد تغيير متوسط العمر المتوقع. ويصاحب هذا التدهور مرحلة النمو القصوى للسكان (النمو السنوي بنسبة 10-12 في المائة) وهكذا توجه البحث عن الأسباب نحو ظروف الإسكان (الهشاشة) والاختلاط و غياب إدارة وتنظيم جماعي للمساحات العامة. وبعد عشرين عاما، في عام 1876، عاد مستوى العمر المتوقع إلى ما كان عليه في عام 1836، عشية النمو. هل ستكون إمدادات المياه كافية لتفسير مثل هذا التحول؟

يبدو من المعقول أن نضيف إلى ذلك سياسة التخطيط العمراني والمساعدة على بناء المنازل ومنح الدعم لتعليم الأطفال، بما في ذلك تعليم الفتيات وتقديم الرعاية الطبية المجانية..

ويبين استعراض البحث الذي قدمه فرانس فان بوبل Frans Van Poppel مدى صعوبة الوصل إلى خلاصات، حيث أن العمل يسفر عن نتائج مختلفة تبعاً لحجم العيّنة ومتطلبات المنهجية.

ولكن فان بوبل يثبت أيضاً أنه حتى عندما توجد معطيات دقيقة جداً وأدوات تحليل كمي حديثة، فمن الصعب أيضاً استخلاص النتائج. فيصبح شكل تقديم الأدلة موضع خلاف.

وأخيرا، يبدو لي أن المشروع الثالث ذو الأولوية اليوم يتعلق بالدراسات حول اتخاذ القرارات في مجال الوقاية والصحة العمومية على مختلف المستويات، من القرى الصغيرة إلى الحكومة المركزية مرورا بالمدن الكبيرة.

ما هي النتائج وما هي مجموعات الضغط التي تؤثر على اتخاذ القرار؟ ما هو موقع مطالب السكان وانشغالات النظام العام، وما هي أشكال الحجج التي تصبح حاسمة (المطالب المتفرقة، الشهادات، التحقيقات الكمية)؟ إنها مجموعة من القضايا ليست غريبة تماما على التاريخ الديموغرافي خلال القرن 19 ، حيث تصبح الأرقام المستمدة من الدراسات الاستقصائية السكانية ومن علم الأوبئة ضرورية للنقاش العام وصنع القرار.

وقد أدت ردود الفعل بعد أبحاث ماك كيون منطقياً إلى إعادة النظر في آثار السياسة العامة والمبادرات الجماعية في مجال الصحة العمومية. يدافع بروس فيتر Bruce Fetter هنا عن التأثير الحاسم والعام لهذه السياسات على الانخفاض العام في معدل الوفيات. وعلى الصعيد المحلي، فإن دراسة الإمداد بالمياه التي استعرضها فرانس فان بوبل Frans Van Poppel وحالة مدينة تيلبورغ Tilburg تذهب في نفس الاتجاه، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالماضي.

من ناحية أخرى ، في مثال مدينة ميلانو الإيطالية ، التي واجهت وباء الكوليرا ، لم يستطع أوليفييه فارون Olivier Faron إظهار تأثير مبادرات الحماية على نسبة الوفيات. على الصعيد الدولي، وهو ما لا ينبغي إغفاله، قام جوسيب برنابيو ميستر, Josep Bernabeu Mestre وتيريزا باليستير أرتيغ et Teresa Ballester Artigues بتحليل ردود فعل المجتمع العلمي والصحي الدولي إزاء الجذام في إسبانيا في القرن التاسع عشر، مع شرح سوء جودة المعطيات بالموقف السلبي للسكان تجاه المصابين بهذا المرض.

ومنذ الحرب العالمية الثانية، أدى التركيز الجديد للبحوث على السكان في الماضي إلى إيلاء قدر كبير من الاهتمام لآثار الأوبئة على الاقتصاد وعلى النمو السكاني، وعلى الإدارة الجماعية للوباء والمواقف تجاه الموت. أدت القطيعة مع النهج الوضعي، التي سادت في تاريخ الطب التقليدي والتي نصت على أن أي انتصار على الأوبئة كان نتيجة للاكتشافات والتدخلات الطبية والسياسية، إلى التركيز على متغيرات أخرى: الخصائص الاقتصادية، والهياكل الاجتماعية، والمنطق الوبائي والمناعة، والتغيرات المناخية وهي كلها جوانب هيكلية لا تخضع إلى القرارات الإرادية البشرية.

خلال السبعينيات، وبعد تطور الاستراتيجية الاستفزازية لماك كيون ومواقف إيليتش Illich ودراسات ميشيل فوكو Michel Foucault ، تركز الاهتمام بشكل أكبر على الطرق التي أصبحت تتجلى فيها العناية الجماعية بالمخاطر الوبائية. واليوم، فإن عواقب الإجراءات التي تتخذها السلطات العمومية و المحلية على الصحة هي التي تجتذب الاهتمام وهو ما معناه إعادة ترتيب الأولويات لصالح القرارات البشرية وإهمال النظم الوبائية الشاملة.

كما أن عودة السياسةتتعلق بمقاربة الأوبئة، وهو أمر جيد. ولكن من المؤسف أن ننسى أهمية المتغيرات الاجتماعية الاقتصادية أو المناخية التي تم تسليط الضوء عليها على مدى السنوات الأربعين الماضية. ويذكرنا التاريخ الحديث للأوبئة في القارة الأفريقية بأن مخزون الأوبئة لا ينضب، ويوضح أيضا أن آثار الحروب وزعزعة الاستقرار الاجتماعي وما ينجم عنها من هجرة تسهم على نطاق واسع في انتشار الأوبئة التقليدية أو الجديدة.

كما يتركز اهتمام المؤرخين على الأدوات الفكرية المستخدمة كمسائل بديهية مثل مفهوم التحول الوبائي، وهو أمر يمكن انتقاده لكونه يعترف بأن معدلات الوفيات العامة تقترب بشكل مقبول من معدل الإصابة بالأمراض أو الاعتلال(Riley et Alter, 1989), ، ولكن أيضا لأنه يركز على التغيرات في النظم المناعية ضد الطفيليات بدلا من التركيز على سياسات التنمية البلدية والوطنية للوقاية العامة.

ومن جهة أخرى فإنه يفترض أن النموذج العام يعكس الانتقال من نظام قديم غير متمايز، قبل القرن السابع عشر، إلى نظام العقود الأخيرة، وهي فكرة زائفة جزئيا، حتى عندما لا ينظر المرء إلا إلى البلدان المتقدمة ولم يكن من الممكن التفكير فيه بدون الانتقال التدريجي للإيمان بمستقبل تاريخي للاستئصال التدريجي للأمراض المعدية منذ بداية القرن التاسع عشر ، على أساس بروز التلقيحات المتعاقبة ثم استخدام مواد السلفوناميد والمضادات الحيوية، والثقة الكاملة في التقدم العلمي.

ومع ذلك، فقد أظهر هذا الأفق التاريخي حدوده على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية: فقد أبرز ظهور الكائنات الحية الدقيقة المقاومة لترسانة العلاجات الموجودة حاليا، وانتشار مرض الإيدز، أن تاريخ مكافحة الأوبئة والأمراض لا يمكن أن يتلخص في الانتصار التدريجي والمؤكد على كل هذه الآفات (منذ أواخر السبعينيات ، ازداد معدل الوفيات الناجمة عن العدوى بشكل ملحوظ). ولذلك فإن آفاق تاريخ الأوبئة تختلف اختلافا كبيرا عما كانت عليه في أوائل الثمانينات. إن الأمر يتعلق اليوم بتحديد عناصر بناء المنظومة الجديدة التي تشمل منطق الكائنات الحية العضوية الدقيقة والعمل الإرادي للإنسان، ناهيك عن المتغيرات الاقتصادية الاجتماعية و المتعلقة بالتغذية وهو ما من شأنه أن يشكل تطورا تاريخيا كنا نعتقد منذ فترة طويلة أنه لا رجعة فيه.على الأقل في البلدان المتقدمة أو بكلمة أخرى التخلص من بعض اليقينيات السابقة.

Sign In

Reset Your Password