الأقزام والملك/عبد الحميد البجوقي

عبد الحميد البجوقي

مهما حاولنا التعلق بالأمل، والتعاطي بإيجابية مع المرحلة الراهنة من تاريخنا المغربي، ومهما حاولنا اعتبار التحولات التي عرفها المغرب قبل وبعد الربيع العربي ودستور 2011 قفزة نوعية في اتجاه التغيير السلمي ، ومهما تميزنا كمغاربة بقدرة استثنائية على عبور العواصف السياسية والاقتصادية، وتلافي الانهيار وعدم الاستكانة للقدر، تُلحّ بعض الأحداث والمشاهد التي تطبع مشهدنا السياسي اليوم في تدمير هذا الأمل، كما تلح بعض النخب السياسية وبعض المُتربّعين الجدد على عروش الزعامة في الدفع بنا إلى نفق الانهيار.
انتقلنا من زمن تميز بسطوة الحاكم وجبروته ، من زمن تزمامارت وقلعة مكونة وسنوات الرصاص، من زمن الصراع مع الملك ومطالبته الصريحة بالديموقراطية، انتقلنا من زمن كان الزعيم يقول فيه للملك “لا” ويدفع ثمنها سجنا كما حصل مع المرحوم بوعبيد (سجنه في ميسور بعد بيان حزبه برفض اللاستفتاء في الصحراء)، أو بالنفي والتشريد كما كان حال الفقيه البصري رحمه الله وعبدالمومن الديوري وغيره، وأحيانا أخرى بالاختطاف والاغتيال الذي ذهب ضحيته الشهيد المرحوم المهدي بنبركة.
أكيد أن المغرب قطع صحراء سنوات الرصاص بأقل قدر من الخسائر، وأن كل أطراف الصراع من ملكية ودولة ونخب قدمت ما استطاعت في درب مصالحة لم تكتمل ، ورغم تعثرات صفقة التناوب بما لها وما عليها حاول الجميع بناء علاقة ثقة متبادلة أساسها بناء مغرب جديد مُحصن من العودة إلى الحكم الفردي مهما كان مصدره. لهذه الأسباب لم يُباغتنا الربيع العربي الذي أقبل ونحن في الحلبة ننتظر الانطلاق، أو ربما تجاوزنا الأمتار الأولى من الانطلاق، هناك من يعزو استقرارنا وتفاعلنا مع الربيع العربي لتلك الخطوات التي على قلتها كان لها الأثر في اندماجنا الايجابي مع الربيع العربي ومع كل التحولات الاقليمية التي تحيط بنا، بمعنى أن حوض مائنا لم يكن فارغا من بعض الماء ما جعلنا نستطيع السباحة ولو بصعوبة.
في تقديري أن مشهدنا السياسي ليس أسودا غارقا في ظلام دامس، ولا هو أبيض ناصع يضمن استقرارنا وأمننا إلى ما لانهاية ، وأن المرحلة التي نعيشها اليوم كانت في تقديري نتاج قدر كبير من الشجاعة والجرأة إلى جانب الموضوعية والحذر من الانزلاق في أي نوع من التطرف، بما فيه التطرف في الحرية. هي معادلة التغيير في ظل الاستقرار ومُراكمة المكاسب وتصحيح العيوب وترسيخ ثقافة الديموقراطية. معادلة صعبة وتحتمل هي الأخرى أخطارا لا تقل عن غيرها في بلدان الاقليم، هي معادلة تتطلب نُخبا قوية مقابل قوة الدولة والنظام الذي لازال يتحكم فيها بيد من حديد.
لست ممن تتملكهم نوسطالجيا الحكم القوي ولا نوسطالجيا الثورة والتغيير الجذري ، لكن الواقع اليوم وبمتابعة المشهد السياسي الحالي يحيلنا على ما هو أفظع من الصراع المباشر وتداعياته على الاستقرار والديموقراطية، وكلاهما يُشكلان نواة الحرية وضمانتها، لأن الحرية التي انتفض من أجلها الشارع العربي لا يمكن أن تعيش إلا في ظل الديموقراطية وهذه الأخيرة لايمكن لها أن تعيش وتنضج إلا في ظل الاستقرار.
لكن ما نتابعه اليوم من حلقات هذا المشهد وتطوره يُرغمنا على التشاؤم، وعلى التهيُّب من تداعياته الخطيرة رغم مظهره الساخر، قدرُنا اليوم أن نتابع تدبير السياسة من طرف نُخب ضعيفة وغارقة في لهاثها لملامسة السلطة من أجل السلطة، نتابع على مضض مواجهات دونكيشوتية بين مكونين أساسيين لحكومة لا تحكم ومعارضة، وكلاهما يعربد ويهدد بمواقف وقرارات تنتظر موافقة الملك أو الضوء الأخضر من الملك أو مباركة الملك. هي السياسة في أردإ صورها .
البحث عن رضى الملك وخطب وده وموافقته على الأشخاص وعلى تدبيرهم لما كلفتهم به صناديق الاقتراع، هي أسفل درجات الخضوع والتزلف بقدر ما هي هروب من المسؤولية. مثل هذا السلوك السياسي يُشرّع السؤال عن جدوى الدستور الجديد، والانتخابات وصناديق الاقتراع ويطرح سؤالا عريضا عن القيمة المضافة التي يساهمون بها هؤلاء في المشهد السياسي المغربي.
إلى أمس قريب وفي غياب حكومة تنفيدية كانت المعارضة تطالب بإشراكها في التدبير والتنفيد، وكان المواطن يشعر ويعرف أن الحكومة لا تحكم وأن القرار في يد من يملك ويحكم، وكان طبيعيا أن يتوجه الجميع للملك طلبا للعدل والمساعدة ورفع الظلم والإكراميات، وكان يتنافس في ذلك المواطن العادي والتاجر والعاطل والفنان وذوي الاحتياجات الخاصة والمهاجر وغيرهم من أيها الناس. تابعنا ولانزال أخبار طابور المنتظرين لزيارة الملك وهم يحملون الأظرفة، وبعدها أخبار الذين اعتقلوا بتهمة الاتجار في ذلك وضحكنا كما ضحك العالم من آفتنا هذه.
انتظرنا بعد إقرار دستور 2011 وصعود حكومة العدالة والتنمية أن يأخد المشهد السياسي شكله الطبيعي بين حكومة تحكم وشعب يطالب أحزاب الائتلاف الحكومي الوفاء بوعودهم، ومعارضة تقوم بدور الرقيب المُزعج ، وقضاء يفصل في النزاعات وملك يقوم بدوره المنصوص دستوريا.
لم يحدث شيئ من هذا ، ونرى اليوم كيف التحقت الحكومة والمعارضة بعموم الشعب تبحث عن رضى الملك وموافقته على ما هو من صميم مسؤولياتها وبات أغلبهم ينتظر قدومه وزياراته للأقاليم لطلب إذنه بتطبيق الدستور، بدا هؤلاء وكأنهم لا يصدقون أن الدستور مصدر للسلطة وكغيرهم من العامة يبحثون عنها في شخص الملك.
“لمن تحكي زابورك يا داوود” تحضرني هذه القولة الشعبية وأتخيل صورة الجسم السياسي عند الفيلسوف طوماس هوبز تؤثثه جموع من الأقزام المتزاحمة يتمثل من خلالها الحاكم في صورة “التنين الأكبر”،وهو الحاكم عند هوبز الذي لاسلطة في الأرض قاطبة تضاهي سلطته، لكنه يبقى في نهاية المطاف جسما اصطناعيا، وبيولوجيا من صنع الناس وليست عمليات عضوية مستقلة عنهم. إنها بيولوجيا التعاقد التي أربكت شباط وبنكيران وبقية مكونات المشهد السياسي بما فيها “المعارضة”.

Sign In

Reset Your Password