اتفاقية تجارية آسيوية لتغيير التاريخ والغرب/ د. حسين مجدوبي

العملة الصينية اليوان والأمريكية الدولار

يسود الاعتقاد بنهاية العولمة، مع التغييرات التي تحدثها جائحة كورونا، وقرار الولايات المتحدة الانغلاق على نفسها، لكن سنة 2020 تسجل أحد أكبر الاتفاقيات التجارية في تاريخ البشرية، وهو الاتفاق الذي شمل 15 دولة مطلة على المحيط الهادئ، ويسمى «الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة». ستنعكس تأثيراته على مفهوم الغرب ككتلة، لاسيما إذا فشلت واشنطن والاتحاد الأوروبي في اتفاق مماثل.
تراجعت العلاقات الدولية إبان الجائحة، وساد الاعتقاد في انغلاق الدول على نفسها لتعزيز الوحدة الوطنية أمام التحديات. وبالفعل، عادت القومية إلى الظهور مجددا، على المستوى الاقتصادي، من خلال تبني معظم الأمم استراتيجية إنتاج تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني، سواء الدول القوية أو الضعيفة. وترتب عن هذا الوضع المفاجئ بسبب الوباء نقاش حول مستقبل التجارة الدولية، بل الاقتصاد العالمي برمته بحكم بداية نهاية ظاهرة العولمة.
سنة 2020، وقبل نهايتها تحمل تغييرات جيوسياسية عميقة، في ملفات على رأسها علاقة تركيا بالغرب، وأساسا فرنسا، بالصراع الذي يتمظهر اقتصاديا وسياسيا ودينيا، وشغل الرأي العام الدولي لشهور، ثم الاتفاق التاريخي الضخم الذي أبرمته إيران مع كل من الصين وروسيا، لتحديث بنيتها العسكرية والاقتصادية، ما يمنحها حماية لم تكن تنتظرها في ظل العقوبات الغربية التي تعاني منها، لكن اتفاق 15 دولة من الدول التي تطل على المحيط الهادئ، نحو اتفاق تجارة حرة يعد منعطفا في تاريخ العلاقات الدولية، خلال القرون الأخيرة لأسباب كثيرة. وعلق الوزير الأول الصيني لي كيانغ «الاتفاقية هي انتصار للتبادل المتعدد الأطراف وستعمل على تسريع انتعاش الاقتصاد بعد الجائحة».
في هذا الصدد، وفي قمة افتراضية، عبر فيديو كونفرنس، أقدمت 15 دولة يوم الأحد 15 نوفمبر 2020 على التوقيع على اتفاقية تجارية ضخمة بكل المقاييس. والدول الموقعة على الاتفاقية هي الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا ثم الدول المكونة للتجمع الاقتصادي «آسيان» صاحبة المبادرة وهي، فيتنام وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا وسلطنة بروناي والفلبين وتايلاند ولاوس وميانمار والكامبودج. ولم تنضم الهند، فهي تتردد حتى الآن، وانضمامها سيزيد من أهمية هذه الاتفاقية، نظرا لحجمها البشري والاقتصادي.

ومن العناوين البارزة للتأكيد على الطابع التجاري والجيوسياسي لهذه الاتفاقية، أنها تشمل 30% من البشرية الحالية و30% من الإنتاج القومي العالمي، أي بمعنى أنها اتفاقية لا سابقة لها في تاريخ الإنسانية. ويمكن الوقوف على أهميتها من خلال المميزات والمعطيات التالية:
أولا، إنها تغطي حتى الآن منطقة واحدة من المحيط الهادئ، وهي الدول الممتدة من نيوزيلندا إلى الصين واليابان. وقد تصبح اتفاقية ضخمة بانضمام كل من الهند ثم روسيا، ولاحقا الانفتاح على الضفة الأخرى للباسفيك، وهي دول أمريكا اللاتينية مثل، المكسيك وتشيلي وكولومبيا وربما كندا كذلك. ويجب انتظار الموقف الأمريكي مع الرئيس الجديد جو بايدن، الحامل لمشاريع متعارضة مع الرئيس المؤقت دونالد ترامب، الذي انسحب من مفاوضات التعاون في اتفاقية شبيهة لهذه، خوفا من التأثير الصيني. وكان هذا الانسحاب والانغلاق الأمريكي وراء تسريع المفاوضات للتوقيع على الاتفاقية بين الدول 15.
ثانيا، تشمل الاتفاقية نواة اقتصادية صلبة، فمن ضمن 15 دولة هناك ثلاثة اقتصاديات رائدة في العالم وهي الصين ثاني اقتصاد في العالم، ثم اليابان ثالث اقتصاد في العالم، وتنضم إليهما كوريا الجنوبية، التي تعد ضمن 15 اقتصادا في العالم. وهذه الدول تعادل الاقتصاد الأمريكي تقريبا، ولديها مستقبل زاهر بحجم ريادتها.
ثالثا، تضم هذا التكتل أنظمة اقتصادية متنوعة بين الاقتصاد الليبرالي المطلق مثل، أستراليا والاقتصاد الليبرالي- الاشتراكي المتحكم فيه مثل الصين، ونجحت في خلق تفاهم ومصالح مشتركة، تجنبها حتى الآن اندلاع أي حرب مستقبلا، رغم وجود توتر، سواء تخوف الجيران من العملاق الصيني، أو ملف تايوان التي تعد جزءا من الصين.
رابعا، وارتباطا بهذه النقطة، تشترك الدول الثلاث رفقة أخرى مثل فيتنام وكامبودج ولاوس وميانمار وإندونيسيا وماليزيا، إلى الثقافة الآسيوية الخاصة بشرق القارة. وبدأت تدرك مفهوم المصير المشترك لمواجهة التحديات الكبرى، فرغم وجود دول غربية مثل، أستراليا ونيوزيلندا، فالطابع الآسيوي سيكون المهيمن بحكم وزن دول مثل الصين واليابان. وهذا يجر إلى اعتبار المولود الجديد أكبر تحد للغرب، الذي تشكل تاريخيا عبر ضفتي المحيط الأطلسي تجاريا وثقافيا وعسكريا وسياسيا. كما يمكن اعتباره أكبر تحد للاقتصاد والثقافة التي يشكلها الغرب، ولاحقا سيأتي التحدي السياسي، لأن المصالح الاقتصادية تقود إلى الالتقاء فيما هو سياسي. وهذا المشروع الضخم يسمى «الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة» وهو يعوض المشروع السابق، الذي كانت تقف وراءه الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما ويسمى «الشراكة العابرة للباسفيك». وهذا يعني استبعاد الولايات المتحدة زعامة هذا المشروع الضخم. في الوقت نفسه، هذا المشروع يقلل من أهمية مشروع آخر، هو «الهند- باسيفيك» الذي شجعته الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا لتقليص التأثير الصيني.

خامسا، هذه الاتفاقية ستساعد العملة الصينية اليوان  على الانتشار على حساب العملة الأمريكية  الدولار بحكم تفكير الدول استعمال العملات  الاقليمية، وهذا سيكون منعطف آخر نحو الهيمنة الصينية على التجاربة العالمية.

هذه الاتفاقية فصل جديد من الفصول التي تشكل التاريخ.

Sign In

Reset Your Password