إجراءات الثقة العسكرية بين المغرب وإسبانيا

العلم المغربي والإسباني

بلورت إسبانيا كيانها التاريخي في مواجهة المغرب، وهذا الأخير بدوره بنى جزء من كيانه وهويته في مواجهة الجار الشمالي. والتاريخ المشترك بين البلدين هو تاريخ الحروب والمواجهات وسيادة فترات من الحوار والسلام الهش. وفاقم هذا الوضع من غياب الثقة في العلاقات الرسمية بين سلطات البلدين وهيمنة الريبة والشك.

وعموما، ينشغل المهتمون بالعلاقات الثنائية برصد ووصف أسباب الخلاف والاختلاف دون الانخراط الفعلي والعملي في تسطير خريطة طريق لتعزيز التفاهم بين شعبي مضيق جبل طارق. ويتعاظم الحديث عن آليات الحوار إبان الأزمات التي تنعش الأحكام المسبقة، وعندما تتراجع حدة هذه الأزمات يختفي الاهتمام السياسي والإعلامي بدراسة الأحكام المسبقة. ويوجد إجماع حول عرقلة الأحكام المسبقة بأنها العائق الكبير نحو تطور العلاقات الاجتماعية الثنائية.

في غضون ذلك، تمتلك إسبانيا رؤية خاصة بها لتعزيز نفوذها الإقليمي ووسط أوروبا وفي غرب البحر الأبيض المتوسط. وتخصص موارد سياسية وأمنية وعسكرية لتحقيق هذه الأجندة. وبدوره يسعى المغرب الى تحقيق مكانة خاصة به كدولة صاعدة ويصبح محاورا رئيسيا في المنطقة. وسيادة الحوار في العلاقات بين البلدين رهين بتفادي الاصطدام بين طموح البلدين مستقبلا.

وعلى ضوء الأحداث الصدامية للتاريخ في مضيق جبل طارق، تحتاج العلاقات المغربية-الإسبانية إلى خريطة طريق واضحة المعالم، غير مقيدة بالهاجس السياسي، ولا ترتبط بالزمن الآني، بل تتطلب حرية التفكير والاقتراح في معالجة كل المواضيع، بما فيها التي اكتسبت صفة طابو؛ والعمل المستمر زمنيا لتطوير صمام آمان يقلص من منسوب هيمنة غياب الثقة. ويمكن ترجمة خريطة الطريق هذه في تطوير عدد من إجراءات الثقة المتبادلة للتخفيض من حدة التوتر ومحاربة الأحكام المسبقة نحو بناء فضاء ثقافي وسياسي عام مشترك بين الدولتين والشعبين. وضرورة أن تشمل إجراءات الثقة مختلف القطاعات والمجالات ومنها الأحكام المسبقة وإجراءات سياسية وكذلك اقتصادية، ويبقى المجال البعيد عن البحث هو الرؤية العسكرية بين البلدين عبر التاريخ وكيف يمكن تطويرها من المواجهة الى التعاون.

في هذا الصدد، أسوأ ما في الأزمات بين المغرب وإسبانيا هو تطورها إلى مواجهات عسكرية وحروب. وكل مراجعة للتاريخ الإسباني والمغربي، سيجد أن عدد من الحروب قد اندلعت بين البلدين خلال القرون الأخيرة وامتدت حتى الخمسينات من القرن الماضي، وكادت أن تندلع حروب خلال العقود الأخيرة إبان السبعينات حول الصحراء وخلال أزمة جزيرة ثورة سنة 2002.  ويعالج المؤرخ العسكري الإسباني أنتونيو بيلاسكو هذه الحروب في كتاب قيم وهو “نزاع حضارتين” حيث يشير الى مواجهات عسكرية لم يتحدث عنها التاريخ المغربي بسبب ضعف التأريخ وغياب أرشيف علاوة على عدم تجرمة الباحثين المغاربة نسبة هامة من الأرشيف الإسباني وخاصة العسكري منه باستثناء فترة الاستعمار وحروب الريف.

وتذهب مراكز التفكير الإستراتيجي الدولية إلى اعتبار النزاعات الترابية بين البلدين قنبلة صامتة قد تتحول إلى مفجر لحرب جديدة بين إسبانيا والمغرب بسبب استمرار النزاع حول سبتة ومليلية. وتبني إسبانيا استراتيجيتها العسكرية على ما تعتبره “العدو الجنوبي”. وبدوره، لا يستبعد المغرب فرضية انفجار حرب مع الجار الشمالي لاسيما بعدما أبانت مدريد خلال أزمة جزيرة ثورة سنة 2002  عن استعداد للجوء إلى للقوة العسكرية إذا اقتضت الضرورة. وكانت حكومة خوسي ماريا أثنار اليمينية قد تبنت في تلك السنة مفهوم “الحرب الاستباقية”.

أزمة جزيرة ثورة كانت منعطفا مقلقا، فقد قرر المغرب الرفع من مستوى تسليح جيشه حتى لا يبقى بين فكي دولتين، الجزائر شرقا وإسبانيا شمالا. وخلال الأربعة قرون الماضية، ضمنت إسبانيا تفوقا عسكريا على المغرب، وهو ما يفسر احتلالها لعدد من المناطق الساحلية المغربية، ثم الانتصار في حرب تطوان سنة 1860 واحتلال شمال المغرب ما بين 1912-1956. وبعد قرون، نجح المغرب ابتداء من سنة 2021 في التقليل من الفجوة العسكرية بين البلدين إلى مستوى تقارب نسبي في الميزان العسكري، ولم تعد إسبانيا متفوقة بشكل كبير، ولم تعد تمتلك ميزة الردع العسكري الكبير التي تمتعت بها سابقا في مواجهة جارها الجنوبي. ويحصل هذا التطور بعد قرابة أربعة قرون من التفوق الإسباني المطلق. ومن شأنه أن يخلق وضعا جيوسياسيا جديدا في ضفتي مضيق جبل طارق. ولم ينتبه الكثير من الباحثين الى هذا التطور الجاري. ولا يتعلق الأمر فقط بالمغرب بل يمتد الى الجزائر أساسا، حيث تقلصت فجوة التسليح والقوة العسكرية بين ضفتي غرب البحر الأبيض المتوسط.

وعلى ضوء هذا، تعد عملية تعزيز إجراءات الثقة العسكرية بين المغرب وإسبانيا لتفادي النزاعات الحربية أمرا ضروريا. وقد يكون منطلق هذا المسلسل هو تعزيز أجندة موجودة ولكن تطبيقها شهد فتورا خلال السنوات الأخيرة. وتتجلى في الرفع من المناورات العسكرية المشتركة بين جيشي البلدين، ثم المشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية، والانضمام إلى منتديات متعددة مثل مجموعة خمسة زائد خمس التي تضم دول ضفتي غرب البحر الأبيض المتوسط. وعلاوة على كل هذا، تفادي تأثر العلاقات العسكرية بالأزمات السياسية التي تندلع بين الحين والآخر. وتؤكد التجارب التاريخية سهولة تجاوز الأزمات الشائكة مهما كانت حدتها مقابل صعوبة تجاوز الحروب نظرا لانعكاساتها ومخلفاتها من خسائر نفسية وبشرية على جيل وأحيانا جيلين، لاسيما إذا حدثت بين شعبين لهما مرجعية دينية وثقافية مختلفة مثل المغربي والإسباني.

ويعيش العالم تطورات متسارعة ومفاجئة منذ بداية القرن الواحد والعشرين بعودة الاستعمار كما حدث من استعمار أمريكي للعراق، ثم اندلاع حروب ومن بينها وسط القارة الأوروبية، وهي الحرب الروسية-الأوكرانية خلال سنة 2022.

وعلى ضوء هذا، أصبح المغرب وإسبانيا مطالبان بربح الحرب قبل اندلاع الحرب، أي الانتصار على “حرب غياب الثقة وعلى الريبة المتبادلة”. وهذا يعني ضرورة توظيف كل إجراءات الثقة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية بل وأساسا العسكرية لتكون سدا يحول دون الوصول إلى انفلات الوضع نحو مواجهة عسكرية. تاريخ المغرب وإسبانيا خلال الأربعة قرون الأخيرة هو تاريخ المواجهات وأحيانا شبح المواجهات ومنها ما حصل في جزيرة ثورة سنة 2002، ولا أحد يضمن عدم تكرار مآسي التاريخ لاسيما في ظل غياب الثقة وسباق التسلح.

Sign In

Reset Your Password