أصبح الملف الفنزويلي يلقي بثقله في الأجندة العالمية بحكم الصراع القائم حول هذا البلد بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى. ومن شأن هذا الملف إحداث توتر حقيقي في أمريكا الجنوبية في حالة انفلاته من السيطرة السياسية الى النزاع المسلح.
وترى واشنطن ضرورة التغيير السياسي في فنزويلا عبر الاعتراف برئيس البرلمان الوطني خوان غوايدو رئيسا مؤقتا للبلاد وانسحاب الرئيس المنتخب نيكولا مادورو، وبهذا جرى الاعتراف بالأول رئيسا مؤقتا للبلاد وإن كان لا يمتلك السلطة نهائيا وخطت عدد من دول الغرب مثل فرنسا واسبانيا وبريطانيا الخطوة نفسها الاثنين من الأسبوع الجاري. ووسط كل هذا يبقى التساؤل: هل سينجح الغرب في طرد مادورو من الرئاسة عبر القنوات السياسية أو التدخل العسكري؟
لقد حاول الغرب استغلال أخطاء الرئيس مادورو ومنها التراجع الديمقراطي والفساد لكن هذا لن يساعد على تغييره في الوقت الراهن. نعم، مادورو لا يمتلك كاريسما الرئيس الراحل هوغو تشافيس، وترك نخبة من المحيطين به يغتنون على حساب الشعب. لكن في الوقت ذاته، تابع السياسة الاجتماعية التي جعلت فنزويلا في صدارة دول أمريكا اللاتينية في التنمية البشرية باحتلالها المركز 78 من أصل 188 دولة سنة 2017 متقدمة على دول مثل المكسيك وكولومبيا والبرازيل وكذلك معظم الدول العربية مثل الجزائر والمغرب. وتعد فنزويلا من الدول القليلة في العالم التي نجحت في تحقيق أكبر قفزة نوعية في التنمية البشرية خلال السنوات الأخيرة بفضل برامج اجتماعية ركزت على الصحة والتعليم. وتراجعت درجات في الترتيب العالمي مؤخرا بسبب الحصار الاقتصادي خاصة من طرف الولايات المتحدة بعدما كانت في المراتب الستين.
هذه السياسة الاجتماعية هي التي أصبحت بمثابة سد حقيقي أمام امتصاص مخاطر التدخل الخارجي. توجد الآن في فنزويلا شريحة هامة من الشعب تعتبر النظام القائم الذي بناه الرئيس الراحل هوغو تشافيس ضمانة للعيش الكريم رغم تراجع الديمقراطية. هذه الشريحة تعتبر من أغلبية المعارضة شبيهة بالنخبة التي حكمت قبل سنة 2000 وجعلت البلاد تعيش فوارق طبقية كبيرة، وهي مستعدة للدفاع عن النظام الحالي سياسيا وعسكريا. ويزداد هذا الشعور في ظل الأخبار التي تفيد بتنسيق الرئيس المؤقت مع واشنطن ومنها التحكم في النفط مستقبلا.
الى جانب هذا العامل الذي يعتبر سدا أمام تدخلات الخارج وسيجعل التغيير من الداخل صعبا، يحضر العامل العسكري المتمثل في تهديدات مستشار الأمن القومي جون بولتون بالتدخل عسكريا وعدم استبعاد الرئيس دونالد ترامب هذا الخيار. لكن الخيار العسكري في حالة فنزويلا يعتبر مستحيلا رغم صدور تلك التهديدات. أولا، دول المنطقة لن تساهم في التدخل العسكري خوفا من انتعاش الحركات المسلحة خاصة في كولومبيا والبرازيل، وقد نبه قادة عسكريون من البلدين الى هذا الأمر. ثانيا، تبقى فنزويلا الدولة الأكثر حيازة لسلاح جوي متطور ويتعلق الأمر بمنظومة إس 300 الروسية وطائرات سوخوي 30 . ولن يغامر البنتاغون بمهاجمة بلد يمتلك هذه المنظومة إلا إذا كان يشكل خطرا حقيقيا على أمنه القومي، الأمر الذي لا يحدث في الوقت الراهن ولا يريد البنتاغون أن تكون طائراته محط تجربة من طرف روسيا. ينسى الكثيرون أن الولايات المتحدة تهاجم فقط الدول الهشة المنهوكة بسبب الحصار والحرب الأهلية كما فعلت مع أفغانستان والعراق ولا تهاجم الدول التي لديها قدرة عسكرية. صاحب هذا المقال ومنذ قرابة عشر سنوات يؤكد استحالة هجوم واشنطن على إيران في وقت كانت تتغنى أقلام ومراكز التفكير الاستراتيجي بالحرب، القاعدة الذهبية هي: “الولايات المتحدة لا تهاجم الدول التي لديها قدرة عسكرية”.
وفي عامل آخر مرتبط بالسابق، تحذّر الاستخبارات الأمريكية من مغبة التورط عسكريا في فنزويلا بل حتى الانخراط التام في دعم الرئيس خوان غوايدو وتنصح البيت الأبيض بالرهان على التغيير السياسي والضغط المسترسل الذي بدأ منذ سنوات لإحداث تغيير حقيقي طالما تستمر المؤسسة العسكرية الفنزويلية في دعم الرئيس مادورو، وإذا تخلت الجيش عن مادورو وقع التغيير.
لقد حاول الغرب استعمال الأمم المتحدة لإجراء التغيير في فنزويلا، لكن الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتيريس وقف في وجه هذه المحاولات رافضا الاعتراف بالرئيس المؤقت غوايدو ويعتبر مادورو المخاطب الوحيد. ويرى خبراء الأمم المتحدة ضرورة وقف مخططات واشنطن لأنها كلما تدخلت في ملف جعلته مصدر فوضى في العالم كما يحدث في أفغانستان والعراق بعد الحرب ونسبيا ليبيا وإن كانت المسؤولية الكبرى في الملف الأخير لفرنسا وبريطانيا.
وخان الحس التقديري البيت الأبيض في الملف الفنزويلي، لم يدرك حجم المعارضة الصينية والروسية ضد أي تغيير مفروض بالقوة ومن الخارج في فنزويلا بسبب المصالح. في هذا الصدد، تعتبر موسكو فنزويلا منصة استراتيجية لانتشارها في العالم، ويكفي أنه خلال شهر ديسمبر الماضي هبطت قاذفتين استراتيجيتن من نوع تو 160 تحملان رؤوس نووية في فنزويلا، ويكفي معرفة تسليح موسكو للجيش الفنزويلي بسلاح متقدم لإدراك رهانها على هذا البلد للرد على الانتشار الأمريكي من حدود روسيا. وما يقال على روسيا ينطلق على الصين، لقد استثمرت الصين في فنزويلا منذ 2006 عبر قروض واستثمارات في قطاعات هامة ما يفوق 50 مليار دولار، أغلبها يجري تسديده عبر البترول الفنزويلي، وترى بكين في فنزويلا خزانا لاحتياجاتها المستقبلية لاسيما وأن هذا البلد يتوفر على أكبر احتياط للنفط في العالم. ومن ضمن رهانات واشنطن على الرئيس “المؤقت” خوان غوايدو هو تجميده لهذه القروض والاستثمارات الصينية أساسا لحرمان بكين من خزانها البترولي مستقبلا.
الملف الفنزويلي شائك ويزداد تعقيدا، هو مختلف عن الربيع العربي ومختلف عن أزمة أوكرانيا، إنها لعبة المصالح الاستراتيجية الكبرى بين واشنطن وبكين وموسكو، لكن رغم الانقسام الكبير وسط الشعب الفنزويلي، فهو يراهن على الحلول السياسية لتفادي الحرب الأهلية. جزء هام من المعارضة يعارض غوايدو ولا يتفق مع مخططاته، وجزء من أنصار النظام البوليفاري يعتقدون في ضرورة التغيير، قاسم مشترك قد يقود الى حل سياسي للأزمة عبر انتخابات رئاسية مبكرة متفق عليها.