كنت ومازلت إلى حد ما، مقتنعا بأن الرئيس بوتفليقة لن يترشح إلى عهدة خامسة، بعد المسيرات الشعبية التي خرجت في كل مدن الجزائر، ضد عهدة خامسة لرئيس مريض، استمر في الحكم لمدة عشرين سنة، لم يخاطب شعبه منذ أكثر من ست أو سبع سنوات، مُقعد، عاجز عن القيام بمهامه الرئاسية في حدها الأدنى، كما بين ذلك طول عهدته الرابعة، التي ترشح لها وهو على كرسي متحرك في 2014.
قناعتي أو أملي بشكل أكثر دقة، بعدم ترشح بوتفليقة لهذه العهدة الخامسة التي دافعت عنها في أكثر من مداخلة إعلامية هذه الأيام، كقناعة فردية، رغم عدم اتفاق الكثير من الأصدقاء والصديقات معي في هذا التفاؤل المفرط، الذي حاولت أن أبنيه وأُسس له بما أعرف من معطيات وأملك من تحاليل.
قناعة ارتفع منسوبها، بعد المسيرات التاريخية التي شهدتها مدن الجزائر في جمعة 22 فبراير/شباط و1 مارس/آذار، والتي خرج فيها مئات الآلاف ـ البعض يتحدث عن ملايين بالنسبة لمسيرات أول مارس ـ في أكثر من أربعين مدينة كبيرة ومتوسطة. توزعت على كل التراب الوطني، من أقصى غربه إلى أقصى شرقه، بما فيها مدن الجنوب التي التحقت بالمنطق الوطني المتحرك منذ سنوات، بعد مظاهرات الشباب العاطل عن العمل، وتلك الرافضة لاستخراج الغاز الصخري.
أملي في عدم ترشح بوتفليقة، الذي بنيته على قناعتي أن المؤسسة الأمنية في الجزائرية، وعلى رأسها الجيش الوطني الشعبي لن يقبل الزج به في مواجهة المواطنين الجزائريين، الذي ظهروا مصممين على رفض هذه العهدة، كما عبروا في مسيراتهم، ليس داخل البلد فقط، بل في دول المهجر كذلك، كما بينت ذلك مسيرات لندن ومونتريال وباريس وبروكسل الخ. وهي المسيرات التي اتسمت بسلمية كبيرة جدا، قال البعض عنها إنها «غريبة» عن الجزائريين المعروفين بحدة مزاجهم السياسي. الزج بقوات الجيش والأمن ضد شعب مصمم على رفض هذه العهدة معناه بكل بساطة، فتح باب جهنم على الجزائريين والجزائر، وستكون له بكل تأكيد فاتورة سياسية باهظة الثمن جدا، على هذه المؤسسة التي مازالت تتمتع بالكثير من الاحترام والشرعية لدى المواطن الجزائري، وستكون كسرا فعليا في علاقة الجيش بالشعب الجزائري، من الصعب جبره مستقبلا.
كنت آمل ألا يترشح الرئيس إلى عهدة خامسة، ولا يغادر كما غادر مبارك وعلي صالح والقذافي، رغم معرفتي بما يميز شخصية بوتفليقة ومساره السياسي وتشبثه المرضي بالسلطة. كما كنت أعرف أن تحولات عميقة دخلت على الدولة الوطنية ذاتها وليس النظام السياسي فقط، في العشرين سنة الماضية التي حكم فيها بوتفليقة. تحولات يمكن أن تبرز للسطح وتعبر عن نفسها بشكل قبيح، بمناسبة هذا الاستقطاب السياسي الحاد الذي تعيشه الجزائر، بعد اعلان الرئيس عن نيته الترشح. رئيس لا يريد أن يغادر هذه الدنيا إلا وهو على رأس الدولة، مهما كلفه الأمر، حتى لو تسبب في إدخال الجزائر في نفق سياسي وأمني، سيكون من الصعب الخروج منه بسهولة. تجربة الإبعاد عن السلطة التي تعرض لها بعد وفاة بومدين في 1978 يمكن أن تكون مفتاحا لفهم نفسية هذا الرجل السياسي الذي كان وزيرا وعمره لا يتجاوز 25 سنة. تعرض خلال هذا الإبعاد الذي دام عشرين سنة 78/99 إلى حصار سياسي، كاد أن يوصله إلى السجن، بعد أن اختارت المؤسسة العسكرية العقيد الشاذلي بن جديد، ليكون رئيسا للبلاد بعد وفاة بومدين. تجربة الإبعاد من السلطة، التي لا يريد الرئيس بوتفليقة أن يكررها ولو لدقائق، بعد أن وصل للرئاسة في ظروف استثنائية، نتيجة استقالة الرئيس زوال المفاجئة في 1998 التي لولاها لما وصل إلى قصر المرادية. وهو ما يفسر إصراره المرضي على البقاء على رأس السلطة حتى وهو مريض ومقعد.
بوتفليقة الذي استمر على رأس السلطة اعتمادا على تحالفات مبنية في الأساس على الولاء الشخصي والجهوي، الذي يملك الريع المالي كقاعدة أساسية له، مما زاد في حدة الفساد خلال هذه الفترة، التي عرفت صرف 1000 مليار دولار. صحّر خلالها الحياة السياسية، وقلّص من دور المؤسسات إلى اشكالها البسيطة والمشوهة، كما بينت تجربة حزب جبهة التحرير والبرلمان وغيرها من مؤسسات الدولة الأخرى. بوتفليقة الذي استطاع في نهاية عهدته أن يقلص من نفوذ المؤسسة العسكرية وذراعها الأمني ـ المخابرات ـ يمكن أن يتسبب ترشحه لعهدة خامسة إن تم فعلا، بما قد يحمله من اضطراب للنظام السياسي والحالة الأمنية للبلاد ككل، في عودة الجيش إلى الواجهة السياسية، لنكون أمام صورة في غاية الكاريكاتيرية. الرجل الذي يقول عن نفسه إنه جاء بالمصالحة والاستقرار إلى الجزائر، سيكون ترشحه هو السبب الرئيسي في عودة اللاأمن والاضطراب إلى هذا البلد الذي عانى لعقد كامل من حرب أهلية فعلية. رغم أهمية المستوى النفسي في تفسير حالة التشنج السياسي الكبير الذي تعيشه الساحة السياسية الوطنية، بعد إصرار بوتفليقة على الترشح ضد أراد أغلبية الجزائريين، فإن الأمر قد يكون أعمق من هذا المستوى الذاتي المرتبط بالشخص ومزاجه وطموحاته. فالأمر يتعلق كذلك بتحولات عميقة على قاعدة النظام السياسي وخطابه وتحالفاته الاجتماعية، أفرزتها فترة حكم الرئيس بوتفليقة الطويلة لمدة عشرين سنة، وهي تُسرع بقوة اتجاهات سابقة عنها.
تحولات لا ندعي التطرق لها بكل تفاصيلها هنا، لنكتفي بالقول إنه قد تتمظهر بشكلها القبيح والعنيف هذه الأيام بمناسبة الاستقطاب السياسي الذي تعيشه الجزائر، الذي قد يأخذ شكل الزج بالمؤسسة العسكرية والأمنية في مواجهة المواطنين، وهم يعبرون عن رفضهم للعهدة الخامسة، كما عبرت عن ذلك المكالمة المسربة التي حصلت بين مدير حملة الرئيس سلال المستقيل/المقال ورب العمل الأول، الممول الرئيسي للحملة علي حداد، التي تم اثناءها تهديد الجزائريين بالويل والثبور وعظائم الأمور. فهل سيكتشف الجزائريون بمناسبة هذه الانتخابات المخيفة، أن دولتهم قد تغيرت وأن جيشهم ومؤسستهم الأمنية التي كانوا يصفونها بالشعبية والوطنية، قد تغيرت هي الأخرى، وأنها يمكن أن توجه سلاحها ضد مواطنين عزل خرجوا، بعد سكوت طويل، للقول إنهم يريدون فقط، أن يعيشوا أحرارا في بلدهم.