بعد الجزائر والسودان: النشطاء مطالبون بمخاطبة الجيش في الدول الدكتاتورية العربية

جندي سوداني وسط المواطنين

أصبحت المؤسسة العسكرية لاعبا جديدا وبارزا في الحياة السياسية في العالم العربي بعد إنهاءها للدكتاتورية في الجزائر والسودان ومرشحة للعب الدور نفسه في دول عربية أخرى مستقبلا، بل وقد تتحول الى ضمانة للديمقراطية وتصحيح انحرافات سلطة الرؤساء والملوك وعاملا مهما للجم دور المخابرات التي تعتبر، تقليديا وغالبيتها في العالم العربي، أكبر عنصر فساد في يد الطغاة للتحكم في رقاب الشعوب.

ويسجل العالم العربي غيابا لما يعرف بسوسيولوجية الجيوش العربية ودراسة المراحل التي مرت منها منذ الاستقلال الى يومنا، وفي المقابل يستمر التعاطي معها كمكون جامد لا يتأثر بالتطورات الجارية في البلاد، ومما يزيد من هذه الرؤية هو اعتبار مؤسسة الجيش طابو سياسي وأمني لا يجب الاقتراب منه. وتساهم الكثير من الدراسات الغربية في تعزيز هذه الرؤية وتبنيها من طرف أغلب الباحثين العرب شكلا ومضمونا.

والواقع أن المؤسسة العسكرية العربية تسجل تغييرا في دورها سيتعاظم مع الوقت شأنها شأن التغيرات التي شهدتها الجيوش الأخرى. في هذا الصدد، كانت المؤسسة العسكرية مرادفا للانقلابات في العالم العربي منذ ثورة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952 ثم محاولات تلتها في سوريا والسودان وليبيا وبطريقة مختلفة في الجزائر ثم في موريتانيا علاوة على محاولات فاشلة في المغرب سنتي 1971 و1972.

والبحث عن إيمان المؤسسة العسكرية بإصلاح الأوضاع عن طريق الانقلاب ضد الحاكم الفاسد ولصالح الشعب بدأ مع الجنرال عبد الرحمان سوار الذهب  الذي ترأس المجلس الانتقالي العسكري سنة 1985 في السودان وسلم السلطة لحكومة مدنية منتخبة سنة 1986. لكن هذه المبادرة التاريخية لم يكن لها تأثير في العالم العربي نتيجة الحرب الباردة من جهة،  وبسبب غياب نهضة سياسية وقتها للشعوب العربية المطالبة بالديمقراطية من جهة أخرى، عكس ما يجري الآن. ويضاف الى ذلك قيام عمر البشير بتنفيذ انقلاب عسكري أعاد ساعة السودان الى الوراء.

وكان يجب انتظار عشرين سنة لنشهد مبادرة مماثلة للجنرال سوار الذهب وهي قيام  المؤسسة العسكرية الموريتانية سنة 2005 بانقلاب عسكري ضد الدكتاتور معاوية ولد الطايع. وسلم الجيش السلطة الى رئيس مدني منتخب سنة 2007 وهو محمد ولد الشيخ عبد الله. لكن ارتكاب هذا الأخير لأخطاء قاتلة دفع الجيش الى الانقلاب بزعامة محمد ولد عبد العزيز، ولم يسقط الجنرال في دكتاتورية عسكرية تقليدية بل راهن كثيرا على مظاهر ديمقراطية متوسطة ومنها قراره الانسحاب من السلطة.

ولا يمكن فهم اندلاع الربيع العربي-الأمازيغي دون التوقف عند لحظة تاريخية ومفصلية، لكنها لا تحظى بانتباه الباحثين، وتتجلى في رفض الجيش التونسي المشاركة في قمع انتفاضة الشعب التونسي نهاية ديسمبر 2010 وبداية 2011. يوم 11 يناير 2011، رفض قائد الجيش الجنرال رشيد عمار أوامر الرئيس زين العابدين بنعلي بنزول الجيش الى الشارع لمواجهة المتظاهرين، وكان ذلك الرفض هو سر نجاح الثورة التونسية وانهيار نظام بنعلي وفراره لاحقا. لقد تبنى الجيش المصري في البدء مطالب المحتجين، ورفض النزول الى الشارع لقمع المتظاهرين، مما أدى الى سقوط الرئيس حسني مبارك، لكن ضباط هذا الجيش بزعامة عبد الفتاح السيسي عادوا لتنفيذ انقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي. يجب استحضار أن السيسي أكثر منه عسكري فهو رجل مخابرات، والمخابرات في العالم العربي هي في الغالب مرادف الفساد والتآمر.

ومع عودة الربيع العربي-الأمازيغي وانتفاضة الشعوب من أجل الديمقراطية خاصة خلال أبريل الجاري، عاد الجيش الى خطف الأضواء. فقد أجبر الجيش الرئيس عبد العزبز بوتفليقة على الاستقالة من رئاسة البلاد، كما وضع الجيش في السودان نهاية لدكتاتورية عمر البشير. وهناك رأيان، رأي يطالب بعدم الثقة في الجيش، ورأي يطالب بالثقة في المؤسسة العسكرية.

والواقع أن المؤسسة العسكرية في الجزائر والسودان أبانت عن نضج سياسي بتفاديها الاستفراد النهائي بالسلطة وكذلك بالرهان على العنف والقمع السياسي وإقامة حوار مع المحتجين من أجل إرساء نموذج انتقالي. فالجيش الجزائري يبحث عن صيغة توافقية تجعله لا يخرق ما ينص عليه دستور البلاد تفاديا لمغامرات غير محسوبة مستقبلا. ومن جهته، قال الجيش السوداني أنه يقوم بالتغيير لصالح الشعب ولهذا لم يلجأ الى القوة نهائيا بل أقدم على قرارات شجاعة سيحفظها التاريخ له. وهناك رهان على الجيش السعودي لتغيير الأوضاع إذا تمادى فساد ىل سعود في الحكم. والتطورات التي تشهدها المؤسسة العسكرية العربية وترشحها مستقبلا الى ضمانة للديمقراطية ناتج عن عوامل رئيسية وهي:

في المقام الأول، الاحتكاك القائم بين أفراد الجيش والمدنيين. في الماضي كان الجنود وعائلاتهم يقطنون في ثكنات عسكرية أو أحياء عسكرية، لكن خلال العشرين سنة الأخيرة، بدأوا يختلطون بالشعب ويعيشون وسطه مما جعلهم يتأثرون بمشاكله التي هي مشاكلهم.

في المقام الثاني، رغم محاولة الأنظمة الدكتاتورية التحكم في وعي الجنود، لم يعد هذا ممكنا بسبب تطور وسائل التواصل الاجتماعي وانضمام طلبة جامعيين الى المؤسسة العسكرية عكس ما كان يجري في الماضي من وجود ضباط كبار متعلمين وانتهازيين ثم جنود صغار وهم الأغلبية بدون تعليم ومفصولين عن العالم الخارجي.

في المقام الثالث، أدرك الجنود أنهم في خدمة أنظمة دكتاتورية أكثر بكثير من المهام المنوطة تقليديا بالجيش وهي حماية الوطن وضمان أمن الشعب. ولم يعودوا يقبلون بهذه المهام الدنيئة، حيث  أدرك الجنود خاصة الصغار والضباط المتوسطين أنهم لا يجبوا الاستمرار كأداة قمع الشعوب.

في المقام الرابع، لم تعد الأنظمة العربية تعتمد على المؤسسة العسكرية في القمع بل تعتمد على مختلف أنواع الاستخبارات، هذه الأخيرة المسؤولة عن معظم الجرائم، ولهذا تمت إقالة مسؤولي المخابرات في الجزائر ويطالب السودانيون بمحاكمة مسؤولي هذه الأجهزة.

هذا لا يعني تعميم التطور النوعي في فكر المؤسسة العسكرية على كل الجيوش العربية، بل هناك تفاوت وإن كان مستقبلا سيغيب هذا التفاوت وستصبح هذه المؤسسات تقوم بدورها وهي حماية الوطن من الاعتداءات الخارجية ولجم كل الانحرافات للحكام ومؤسساتهم الاستخباراتية. في غضون ذلك، وأمام هذا التطور الهام، يبقى الأساسي هو تفكير النشطاء السياسيين والحقوقيين في الدول العربية التي تشهد حكم الطغيان والفساد بضرورة إقامة بشكل أو آخر  الحوار مع المؤسسة العسكرية لكي تساهم في التغيير السياسي عبر تذكيرها بدورها الحقيقي المتمثل في حماية الشعوب وليس خدمة وحماية أنظمة دكتاتورية فاسدة، فالجيش في آخر المطاف مكون من أبناء الشعب.

المقال من مصدره في القدس العربي

Sign In

Reset Your Password