منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الاثنين من الأسبوع الجاري، والمقالات تتناسل بين ما هو عقلاني وغير عقلاني حول قراراته في السياسة الداخلية مثل الهجرة والدولية مثل النزاعات، ويحضر طابع الاستشراق بمفهومه السوريالي في التعاطي مع قضايا العالم العربي وخاصة الشرق الأوسط وبالأساس في الجانب المالي والعسكري.
ويحضر الشرق الأوسط في أجندة الرئيس الأمريكي بسبب النزاع الفلسطيني-العربي لاسيما بعد حرب الإبادة التي تعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة، ثم بسبب نزاعات أخرى مثل الحوثيين، ويضاف الى هذا التساؤل عن سياسة واشنطن هل ستحمل استمرارية في الاهتمام بالمنطقة لكونها مازالت مركز الطاقة عالميا أم تدريجيا تصبح منطقة ثانوية الاهتمام أمام أهمية منطقة الهادي لاسيما المنطقة الممتدة من الفلبين الى سواحل روسيا مرورا بالصين وتايوان والكوريتين واليابان. وعلاقة بالشرق الأوسط، يوجد نقاش منقسم الى قسمين، براغماتي وواقعي، ثم نقاش استشراقي بطابع سوريالي.
الاستراتيجية العسكرية
وعلاقة بالشق البراغماتي، من ضمن أهم الأسئلة هو هل سيحافظ صناع القرار الجدد في واشنطن من رئيس ووزير دفاع وخارجية وقيادات الجيش الذي قد يتم تعيينها على التواجد العسكري الأمريكي في منطقة البحر الأحمر وبحر العرب لمواجهة الحوثيين، وذلك بسبب دورهم في اعتراض سفن الشحن الدولي خاصة الغربية منها. وتعهد الحوثيون باعتراض السفن الإسرائيلية، ثم السفن التي تتوجه الى موانئ الكيان وأخيرا معظم السفن الغربية ومنها العسكرية.
ورغم خطابه الرافض للحروب، تفيد كل المعطيات أن إدارة الرئيس الجديد دونالد ترامب ستحافظ على التواجد العسكري لأسباب متعددة، على رأسها إعادة تصنيف الحوثيين خلال الأسبوع الجاري بحركة إرهابية لاسيما بعدما هاجمت هذه الأيام حاملة الطائرات ترومان المتمركزة في مياه البحر الأحمر. وهذا يعني انخراط أكبر للجيش الأمريكي في محاربة هذه الحركة تماشيا مع منطق التصنيف.
وفي سبب آخر رئيسي وهو قد تندلع الحرب مجددا بين الفلسطينيين والإسرائيليين مع مشاركة أطراف أخرى مثل الحوثيين وقوات شيعية في العراق وربما حتى إيران، لاسيما وأن حرب طوفان الأقصى حملت معها جديدا وهو الحرب عن بعد التي يطبقها الحوثيون بامتياز. وهذه التطورات التي تبقى واردة جدا بسبب حالة التوتر الكبير، تفرض على البنتاغون استمرار الحفاظ على التواجد العسكري، إذ أن هذه الحرب أظهرت عجز إسرائيل الدفاع لوحدها عن نفسها رغم ما تمتلكه من قوة عسكرية. وتولت السفن الحربية الأمريكي والأوروبية وكذلك المقاتلات اعتراض الصواريخ والمسيرات الحوثية والإيرانية الي استهدفقت الكيان إبان الحرب.
سوريالية الصفقات العسكرية
من جهة أخرى، يحضر الطابع الاستشراقي والسوريالي لسياسة ترامب العسكرية في الشرق الأوسط بعودة الحديث عن صفقات سلاح خيالية ستوقعها الولايات المتحدة مع دول المنطقة وعلى رأسها العربية السعودية والإمارات وقطر. في هذا الصدد، كانت الولاية الأولى للرئيس ترامب ما بين يناير 2017-يناير 2021 قد شهدت أحد أكبر الخرافات في تاريخ الصفقات العسكرية عندما أعلن الرئيس وقتها عن بيع السعودية 460 مليار دولار من الأسلحة خلال العشر سنوات، أي ما بين 2017 الى 2027. وذلك بمعدل 46 مليار دولار سنويا. ومرت ثمان سنوات، وبالكاد لم تتجاوز قيمة الصفقات طيلة هذه السنوات الثمانية العشرة مليار دولار. وعمليا، من المستحيل أن يستوعب جيش متوسط الاحتراف مثل السعودي صفقات أسلحة ب 46 مليار سنويا، كما أن معظم المصانع الأمريكية بالكاد تنتج هذه الكمية سنويا من السلاح للجيش الأمريكي والغرب وباقي العالم. في الوقت ذاته، لا تبيع الولايات المتحدة حاملات الطائرات والغواصات والمقنبلات بل لم رفضت بيع السعودية حتى طائرات إف 15. وعليه، رغم تناسل الكتابات وبنفس سوريالي واستشراقي حول صفقات عسكرية ضخمة أمريكية للخليج، لا يمكن انتظار صفقات كبيرة بين الطرفين خاصة مع العربية السعودية ويمكن الوقوف على سببين رئيسيين وهما:
في المقام الأول، إنتاج الشركات الأمريكية من الأسلحة محدود نسبيا، ورغم أنها تعمل وفق طاقة أكبر بسبب الحرب الأوكرانية-الروسية إلا أنها لا تلبي جميع الطلبات، وسيكون هناك تأخر لسنوات. في الوقت ذاته، عادة ما تكون الأسبقية للجيش الأمريكي ثم الدول الحليفة للولايات المتحدة مثل أستراليا وبريطانيا وبعدها الدول الشريكة مثل باقي دول منظمة شمال الحلف الأطلسي. وارتفع الطلب الأوروبي على السلاح الأمريكي بعد الحرب الأوكرانية-الروسية. ومن ضمن الأمثلة، شركة لوكهيد مارتين المصنعة للمقاتلة إف 35 لديها طلبات ل 14 سنة المقبلة أغلبها للجيش الأمريكي، إذ ومن المقرر أن يصل مجموع طائرات F-35A إلى 1762 طائرة من طراز F-35A للقوات الجوية و693 طائرة أخرى من طراز F-35B وF-35C للبحرية الأمريكية ومشاة البحرية. وبالكاد حصلت القوات الأمريكية على أقل من النصف حتى الآن. ولا تتجاوز القدرة التصنيعية للشركة 180 طائرة سنويا في أقصى الحالات.
في المقام الثاني، لم تعد دول الخليج العربي تثق كثيرا في الصفقات التي توقعها مع الولايات المتحدة بسبب صعوبة المصادقة على الصفقات بل إلغائها أحيانا. ومن ضمن الأمثلة الشهيرة في هذا الشأن، صادقت إدارة ترامب سنة 2020 على بيع الإمارات العربية طائرات إف 35، لكن إدارة جو بايدن لاحقا ألغت الصفقة. وتكرر الأمر نفسه وإن كان بشكل مغاير مع السعودية التي رغبت في شراء منظومة الدفاع الجوي ثاد لكن الصفقة لم تترجم إلى واقع. وأصبحت دول الخليج العربي تفضل الرهان على السلاح غير الأمريكي، ومن ضمن المنعطفات الكبرى في هذا التغيير رهان دول مثل قطر والإمارات على مقاتلات رافال الفرنسية خاصة الإمارات التي وقعت سنة 2021 على أكبر صفقات الأسلحة مع فرنسا، ثم رهان العربية السعودية على السلاح الصيني، كما تراهن كل الدول الخليجية على السلاح التركي والباكستاني وعلى رأسها الطائرات المسيرة من تركيا والصواريخ من باكستان.
إشكالية ترامب مع إيران
يبقى التساؤل الكبير في سياسة ترامب العسكرية في الشرق الأوسط هو: كيف سيتعامل مع إيران؟ تفيد معطيات الواقع تقلب ترامب في قراراته تجاه الملف الإيراني بين التشدد الدبلوماسي والحصار الاقتصادي كما فعل في ولايته الأولى ضد إيران، ثم التهديد العسكري دون الانتقال الى شن الحرب. وتبين هذا من خلال إلغاء الاتفاقية النووية الموقعة بين الغرب وإيران في حقبة الرئيس باراك أوباما، ثم عدم شنه الحرب ضد إيران رغم التلويح بالحل العسكري. لعل الإشكال الكبير هو طريقة تطبيق ترامب الاستراتيجية التالية: كيف يمكن إضعاف إيران والتقليل من قوتها الإقليمية دون التسبب في المزيد من الحروب والمزيد من عدم الاستقرار والمزيد من الفوضى في الشرق الأوسط.